احتضنت مدينة الحلة رواد الفكر التنويري منذُ مطلع القرن العشرين, وبرز في هذا السياق كل من الشيخ يوسف كركوش والشيخ عبد الكريم الماشطة والصحفي رؤوف الجبوري والدكتور محمد عبد اللطيف مطلب والدكتور علي جواد الطاهر والدكتور أحمد سوسة والأستاذ أحمد حسون الخطاب وآخرين, وقد تمثلّت جهودهم الفكرية والتنويرية في رفد الحركة الثقافية في مدينة الحلة وإسهاماتهم في مجال الأدب والصحافة والدعوة لنشر السلام والمحبة بين صفوف الجيل الجديد في تلك الحقبة.

وقد برز من بين هؤلاء رائد التجديد والتنوير الصحفي رؤوف الجبوري, في اسهاماته الصحفية ونشر الفكر التنويري بين صفوف الشباب مطلع ثلاثينيات القرن الماضي من خلال مجلته "الحكمة" التي حازت على الريادة في ميدان العمل الصحافي في المدينة, ولدور كتابها الفاعل في إغناء الحركة الفكرية التنويرية في المدينة خاصة وفي العراق عامة وفي نشر الفكر اليساري والفلسفي لمعالجة قضايا علمية تنوعت في الاختيار.

في هذا المقال نسلط الضوء على هذا الرائد تحديداً، ولد في كرادة مريم في العاصمة بغداد عام 1911, وانتقلت العائلة بعد ولادته إلى مدينة الحلة الفيحاء لغرض التجارة, بدأ تعليمه في مدارس الحلة الرسمية, ثم تركها في الصف الرابع وارسله والده الى مدينة النجف الأشرف ليكون طالباُ في العلوم الحوزوية الدينية, ثم حضر درس الشيخ يوسف كركوش الحلي في النحو في مدينة الحلة, وحضر دروس علماء حوزة النجف الأشرف, حيث مكثّ فيها عامين لينهل منها مختلف موضوعات العلوم الدينية, ثم عادَ إلى مدينة الحلة وسعى الى تثقيف نفسه ذاتياً دونما كلل أو ملل, وحضر دروس الشيخ عبد الكريم الماشطة مرات أخرى في علميّ الفقه والأصول.

بعد مدة من الزمن تقدم لامتحانات الدراسة الثانوية كطالب خارجي ليجتاز بنجاح الامتحان الوزاري الذي مكنهُ من دخول كلية الحقوق في بغداد عام 1939م وتخرجه فيها عام 1943م.

 ساهم رؤوف الجبوري في نشر فكره التنويري أدبا وقصائد ومقالات في الصحف والمجلات الحلية والعراقية ومنها جريدة حمورابي المسائية, وأسس مجلة الغد الاسبوعية التي صدرت بعد تعطيل مجلة الحكمة عام 1937م, وجريدة الحلة الاسبوعية الأدبية الثقافية التي صدرت بعد احتجاب مجلة الغد يوم 27 كانون الأول 1937.

ظهرت مجلة الحكمة لأول مرة في شهر تشرين الأول عام 1936م في مدينة الحلة, وساهمت في العمل على تنوير النخبة المثقفة في المدينة, إذ قال رؤوف الجبوري في صفحتها الأولى "أرادت العناية أن تتحقق الفكرة التي كنت اصبو إلى تحقيقها منذُ بضع سنوات, فمكنتني الظروف "في هذه الأيام" من إنشاء مجلة الحكمة, لتكون مناراً للأفكار الحرّة, ومشعلاً للنهضة الثقافية... وعسى أن أوفق في إنجاز هذا الواجب الخطير, وهذا كل ما أرجو تحقيقه في هذه الحياة". 

ولعدم وجود مطبعة صالحة في مدينة الحلة اضطر رؤوف الجبوري إلى أن تطبع مجلته في مطبعة الغري في مدينة النجف الأشرف, وقد ساهم في دعم المجلة والثناء عليها متصرف لواء الحلة آنذاك أحمد زكي الخياط.

صدر من المجلة ستة أعداد في ستة أشهر, وللراحل رؤوف الجبوري مواقف سياسية في حقبة ثلاثينات واربعينات القرن الماضي, منها تأييده انقلاب بكر صدقي عام 1936, وانتسب في اربعينيات القرن الماضي إلى الحزب الوطني الديمقراطي حتى اصبح معتمداً لفرع الحزب في مدينة الحلة عام 1948م, وانتخب رئيساً له.

في الثاني عشر من شهر كانون الأول عام 1948 رحل الصحفي والأديب رؤوف بعد اصابته بمرض عضال وهو في ريعان شبابه مخلفاً وراءه زوجة وثلاث بنات.

مجلة الحكمة وأثرها في الوسط الثقافي الحلي

جاءت محتويات مجلة الحكمة في موضوعاتها المتنوعة, لغوية وادبية واجتماعية وفلسفية وتاريخية وسياسية  ومعرفية متنوعة, وقد ساهم رؤوف جبوري بكتابة موضوع في كل عدد صادر من المجلة, كما ساهم رواد الفكر والثقافة والأدب في كتابة المقالات فيها منهم: الشيخ عبد الكريم الماشطة, الشيخ يوسف كركوش, الطبيب رشيد معتوق, الاديب جعفر الخليلي, الاديب عبد المجيد لطفي, الاستاذ صادق كمونة, الاستاذ سلمان بيات, الباحث عبد الرزاق الحسني, الشيخ محمد علي اليعقوبي, الاستاذ عبد الامير علاوي, الاستاذ مهدي المخزومي, الاستاذ فاضل الجمالي, الاستاذ عبد الفتاح إبراهيم وآخرون , وهؤلاء الكتاب يمثلون النسيج الاجتماعي لأغلب مدن العراق.

في مقال "فوضى المجتمعات الأوروبية. بقلم ع. حسن", والمقال يحدد العلاقة بين الاقتصاد والسياسة لمناقشة المسائل ذات العلاقة بثروة البلد دون استبعاد الاعتبارات السياسية والمعنوية والاجتماعية, فضلاً عن مقال آخر تحت عنوان "كيف تأسس المجتمع الرأسمالي؟" تناولت فيه المجلة مصطلحات في مجال الاقتصاد السياسي, وتوضيح العوامل المهمة لانهيار المجتمع الرأسمالي من خلال استغلال الرأسماليين العمال والتحكم بنتاجهم, والتناحر الرأسمالي الصادم بينهما.

ومقال آخر بعنوان "الاستعمار آخر مراحل الرأسمالية", تحدث عن كيفية ولادة الاستعمار وترعرعه في احضان الرأسمالية, مستشهدا برؤية كاوتسكي قائلاً "يجب أن لا نفسر ظاهرة الاستعمار كظاهرة اقتصادية, بل كظاهرة سياسية... وحينئذ نستقرئ أن الاستعمار بحاجة ماسة أو ضرورة للرأسمالية, والاستعمار نتاج الرأسمالية الصناعية المتطورة".

لقد حققت المجلة رسالتها السامية وباتت منبراً ادبياً ثقافياً, وفكراً حراً من خلال تنوع مقالاتها المعرفية والثقافية والتنويرية, وتحطيم ركائز الجهل والتخلف في المجتمع الحلي آنذاك.