يضع المخططون الاقتصاديون السوق في مصاف مهمات تخطيط إنسان المدينة، كلاهما يرتبط بالحداثة، والمشكل ليس سهلًا كما يبدو، فعندما يجري التفكير بالتوازي بين الإنسان وبين السوق، يعني رسم الخطوط العريضة للتقدم، فالعلاقة ليست بين إنسان بائع وإنسان مشترٍ، إنَّما بين تنظيم اقتصاد الأسرة وتنظيم المدينة، فالسوق في أبسط علاقتها توفير بضائع، وتبادل تجاري، وحركة نقد، وسهولة نقل البضائع، وتغذية الشرايين الحيوية للمدينة، وأعقد تصورات العلاقة  هي تنظيم بينة اقتصادية تؤشرعلى متانة البلاد أوضعفها، وفي كل أحوال فتأثير السوق المباشر على الإنسان يمكن تحديده بـ : الثقافة والمعاش، واللغة، والسياسة الاقتصادية، ومستقبل النمو. ونظرة ماضية على تشكيل معظم مدننا العراقية: البصرة، الشطرة، الكوت العمارة، الناصرية، اربيل، سوق الشيوخ، الموصل، وبغداد، وغيرها، قامت على محددات الأسواق والجوامع، أي الإرتباط بين السوق والدين، فبنى الناس حولهما بيوتهم، وتوزعت أرومتهم وعشائرهم على السياقات التي تفرضها علاقة المنتج بالمستهلك. ولذلك لم تكن العلاقة بين الإنسان والسوق عشوائية، بل تعمقت حضورا ومعمارا وهندسة كلما ازدهرت مؤسسة التمدن في حياة الناس ..وسلطت في كتابي" شارع الرشيد عين المدينة وناظم النَّص" على هذه العلاقة المتنامية، بحيث أصبح شارع الرشيد مُنظِمّا من خلال انتظام السوق بكل شعبها لبغداد أولا والمدن العراقية ثانيا من خلال مركزية المال والتجارة، ولم يقف التنظيم على مستوى التجارة والنقد بل شمل: العمران، والصحة، والثقافة، والمواصلات ومماشي السابلة، وصولا إلى تنظيم العلاقة بين السوق والسكن، وحركة الباعة والمشترين.

كانت الأسواق في العصور العباسية، مركزا للبضاعة والثقافة والسياسة، والعلاقات الاجتماعية، وفيها نشأت الحكاية والقصائد كجزء من ظاهرة السوق الحضارية  وقد  وجد ذلك صداه في خطب الجوامع ومنتديات الثقافة ودواوين السلطة، وتجمعات المعارضة، حتى لتحسب أن مفهوم السوق أصبح بيتا للحوار وتبادلا للمعارف وسوقا للشعر وتجاورًا للتنوع البشري والبضائعي، فبغداد الأرضية التي اسست ثقافة الخطاب التنويري، وأسواقها اسست ثقافة للإيقاع والوزن والضبط والتنظيم.

ولم يكن الاهتمام بالسوق وبالإنسان منحصرا على الجانب المادي فقط، من يقرأ تاريخ الأسواق في بغداد الحديثة، يقرأ بالجوار منها تنظيم سكك الحديد، وحدائق المدينة، ومراكز الترفيه، وتنظيم المهن، ودور السينما، وانتشار المقاهي الثقافية، ونوادي التعارف، ومنتديات اللقاءات وغيرها. وإلى جوار هذا وذاك، وجدت التنظيمات السياسية فسحة للحوار والإنتشار، فالحياة المدينية تؤسس لعلاقات اجتماعية، وكانت  السوق العراقية امتدادا لأسواق العالم، حضورا لبضائعها  وتطويرا لصناعتها، ولنا في اورزدي باك مثلا حين اسس لعلاقة إنسان المدينة باسواق العالم، بحيث يمكنك أن تسمع حفلة سمفونية انجليزية أو فرنسية أوايطالية في بيتك من خلال ما توفره الأسواق. ولا أتحدث عن تجديد عمارة البيت الداخلية، عندما انتشرت الموكيتات الإيطالية، ولا أزياء المرأة عندما انتشرت بضائع لندن في شارع النهر، ولا العطور والهدايا الباريسية إلا وتجدها في عموم مدن العراق، ثم جرى التفكير الجدي بإعادة إنتاج اسواق بغداد العباسية الأربعة، التي نظمت بغداد نفسها  فكانت في المقدمة منها سوق الثلاثاء، والسوق العربي، فأي حديث يمكنه أن يجري عن تطويرأسواقنا وإنساننا دون المرور بثقافة التنظيم، والمراقب والمعايش لأوضاعنا يجد أن ضياع السوق المنظم؛ ضياع لإنسان متمدن. وها نحن نرى بأم أعيننا أن تمزيق بغداد بدأ بتمزيق السوق حين احتل المهمشون الأرصفة. ويبدو الأمر متعمدا في تصور ثقافة الساسة الذين يحكمون. فأي حديث يمكنني القول به عن إنساننا ومدينتنا وأسواقنا وهي ممتلئة بالبضائغ الغش، وبالبائع الأمي، وبالأرصفة  العشوائية.

عرض مقالات: