حينما قرأت رواية "عزازيل" للمصري المبدع يوسف زيدان قبل اكثر من عشرة اعوام، راعني سردها المبهر المكثف، وعوالمها المعززة بالتفاصيل الغريبة، وشخصياتها الكهنوتية والوثنية المتصارعة. ولم استطع تصنيف هذا السرد او تجنيسه تحت اية مدرسة ادبية او فنية، بعد ان حكم البعض من نقادنا العرب الكبار بان "عزازيل" متأثرة بالأسلوب السردي لامبرتو ايكو في "اسم الوردة" او اسلوب دان براون في "شيفرة دافنشي" اعتمادا على اجوائها الكنسية او فضاءاتها الكهنوتية، وهذا في تقديري تجنٍ ان لم يكن افتراءً على الحقيقة.
والان، وبعد سنوات طوال من التقصي والبحث استطيع القول وبثقة ان رواية "عزازيل" تنتمي الى ادب "الغرابة" في مفهومه وتجلياته المتعددة محاولا ان لا يكون قولي رجما بالظن او حلما بالشبهة.
ان "الغرابة" في الادب ليست مصطلحا احادي البعد بسيط المعنى، بل مصطلح متعدد الابعاد، مركب المعاني متنوع الدلالات، ومن معانيه حضور الموت في الحياة وحضور الحياة في الموت، ومن معانيه ايضا ظهور غير المألوف في سياق المألوف او ظهور المألوف في سياق غير المألوف، وتحول الساكن الى متحرك والمتحرك الى ساكن، عودة الموتى الى الحياة، ودخول الاحياء الى عالم الموتى، وثمة معان اخرى قد لا يتسع المجال لها في هذا الحديث.
والغربة، تعنى بسرديات الخوف والظلام، وسرديات تفكك الذات او ازدواج الذات وانقسامها، وسرديات الغرابة والقرين، وسرديات الاطياف والاشباح والارواح المهوّمة في المكان. ومن الذين تطرقوا الى ادب الغرابة: فالتر بنيامين وارنست نيتش وريشارد هاورد وسيغموند فرويد وتودوروف وسعيد يقطين وشاكر عبد الحميد، وللأخير اكثر من كتاب في هذا الادب كأستاذ مختص في علم نفس الابداع الفني والادبي.
والغربة قد تشمل مفاهيم او مصطلحات قريبة دالة منها كالغربة والتغريب والاغتراب. فالغربة تعني غربة المكان بالسفر او النفي او الهجرة، لكنها قد تكون ايضا غربة في المكان كحال ابي حيان التوحيدي في حديثه عن الغريب بين اهله، وفي اهله، وفي وطنه. اما التغريب فهو تقنية فنية اشار اليها الشكلانيون الروس ونظروا حولها، كما فعل ذلك شكلوفسكي وزملاؤه وقد استخدمه الكاتب المسرحي الالماني برتولد بريشت كي يكسر جوهر الايهام الرسطي في المسرح. وكان لجوهر فكرة الاغتراب كما شرحها هيغل وماركس وشيلنغ وبليخانوف في اطار تحليلي اجتماعي فتح المجال على الفلسفة والادب والفن والسياسة.
وقبل ان ننهي هذا الاستطراد الذي لا بد منه، ونحن في صدد مرجعيات السرد في رواية عزازيل، نشير الى ادب الغرابة، خصوصا في القصة القصيرة والرواية يتجلى بالفنتازيا "العجائبية" حينا وبالسرد الطيفي "الشبحية" حينا اخر، وبالسرد القوطي "الطللية" او "الاثارية" في احيان اخرى . واحسب ان راوية عزازيل ترتبط الى حد ملموس بالسرد الاخير. فالادب القوطي الذي غالبا ما يشار اليه باسم "الرعب القوطي" نوع من الادب الذي يمزج بداخله عناصر من الرعب والانفعال والخيال، ويعتقد بشكل عام ان مبتكر هذا النوع من الادب هو الكاتب البريطاني هوارس والبول من خلال روايته الشهيرة "قلعة اوترانتو" عام 1764.
ويندغم السرد القوطي بشكل حميم بتجدد النهضة القوطية في الفن المعماري التي حدثت خلال القرن التاسع عشر. والمكونات الغالبة على هذا السرد هي: الخوف الشديد، الغموض، الاشباح، كائنات ما وراء الطبيعة، البيوت المسكونة، الظلام، الموت، ظهور الاشباه والقرائن، الجنون، الاسرار الخفية، واللعنات الموروثة. وابرز الشخصيات التي ظهرت في مثل هذا السرد: الطغاة والاشرار والمجانين وقطاع الطرق والرهبان والفنانين والملائكة التي تنزل من السماء والاشباح والهياكل العظيمة المتحركة، وحتى الشيطان نفسه.
ونكتفي هنا بالقول ان ابرز كتاب هذا النوع هم: تشارلز مايتورن مؤلف رواية "مالموث التائه" وماري شيلي مؤلفة "فرانكشتاين" وبرام ستوكر مؤلف "دراكيولا" وستيفنسون مؤلف "الدكتور جيكل والمستر هايد" وان ردكليف صاحبة "اسرار ادولفو" وكذلك ادغار الن بو مؤلف "سقوط بيت اشر" ولو فكرافت مؤلف رواية "عند جبال الجنون" وغيرهم.
ويمتد تراث هذا السرد حتى يبلغ ذروته لدى كاتب قصص الرعب المعاصر ستيفن كينغ، مرورا بكتاب الواقعية الفكتورية امثال اوسكار وايلد في "صورة دوريان غراي" هـ. ج. ويلز في "جزيرة الدكتور مورو" واميلي برونتي في "مرتفعات وذرنغ" وكذلك في بعض السرديات الحديثة، وبخاصة في ما يسمى بـ "رواية الاجيال" او ما بعد الحداثية المرتبة بالاتجاه المسمى بـ "الواقعية السحرية" والتي تميزت بها اعمال كتاب امريكا اللاتينية تحديدا، امثال ماركيز ويوساو وبورخيس وايزابيل الليندي وبخاصة روايتها الشهيرة "بيت الارواح" فضلا عن روايات دان براون وامبرتو ايكو وباتريك زوسكيند في "شفرة دافينشي، اسم الوردة، العطر" ولا نستبعد ايضا حتى رواية احمد السعداوي "فرنكشتاين في بغداد" ضمن هذا السرد تمثلا لا حصرا.
لقد عاد يوسف زيدان في "عزازيل" الى القرن الخامس الميلادي واختار لحظة من لحظات التحول في تاريخ بلاده مصر، واعاد قراءتها بعين معاصرة، وقدم في قراءته الجدل والصراع داخل الكنيسة المسيحية القبطية حول طبيعة السيد المسيح ضمن حلقة غائبة او مغيبة او مفقودة في وعينا المعاصر بهذا التاريخ، وهي الحلقة التي مهدت لفتح مصر من قبل العرب المسلمين ودخول الاسلام فيها. ولذا لم تسهُ روايته الكنيسة القبطية المعاصرة، وشجبتها وطالبت بمنعها ومصادرتها. ولم ينصفها الا بعض الكتاب المصريين الاقباط، امثال سامي خشبة وروبير فارس والمطران يوحنا جورجيوس الذي قال عن الروائي: "ان يوسف زيدان هو اول روائي مسلم يحاول ان يعطي حلولا لمشكلات كنسية كبرى. ان يوسف زيدان اقتحم حياة الاديرة، ورسم بريشة راهب احداثا كنسية حدثت بالفعل وكان لها اثر عظيم في تاريخ الكنيسة القبطية".
وعندما نقرأ ما كتبه زيدان في عزازيل وحتى روايته الثانية "النبطي" نلمس السرد القبطي بأرقى صورة وابهى تجلياته، قلما نلمسه لديه تجاه بقية الانواع السردية، وهو ما يؤكد لنا ان هذا النوع يظل هو النوع الاثير الى قلبه، من حيث يدري او لا يدري. ونجد زيدان يولي اهمية بالغة في تصوير الفنون المعمارية الخاصة بالكنائس والاديرة وصوامع الرهبان على امتداد رحلة بطله الطويلة بين الاسكندرية واورشليم وحلب وانطاكية. كما صور المدن المذكورة نفسها كوحوش بشعة منكرة في ضوء تعدداتها الجغرافية والاجتماعية وانقساماتها وتنوع تكويناتها. وهكذا فان المدينة التاريخية او المدينة المتاهية، هي المكان المسؤول – الى حد كبير – عن خلق تلك الوحوش التي تتحول في شوارعها، او تخرج من اوكارها وبيوتها العشوائية القذرة المزدحمة بالسكان والاسرار كي تثير الخوف. وهذا ما يتجلى في مدينة الاسكندرية القبطية كما سنشير اليها لاحقا.
ولان الشياطين تشارك البشر في السرد القبطي فان شيطان الراهب هيبا، بطل الرواية المدعو عزازيل يتماهى مع هذا الراهب في حله وترحاله. انه يحضه على قراءة الكتب الوثنية المحرمة والاناجيل والاسفار الممنوعة واقتنائها والاحتفاظ بها. بل يزين له العواطف والشهوات، فيسقط هيبا الراهب في الخطيئة مرتين، مرة مع امرأة وثنية تدعى اوكتافيا واخرى مع شابة مسيحية تدعى مرتا. والاغرب من ذلك فان عزازيل لا يفتا ان يحرض هيبا على فعل ايجابي مثير، الا وهو تدوين سيرة عجيبة وتاريخ غير مقصود لوقائع حياته القلقة وتقلبات زمانه المضطرب.
والراهب هيبا رغم تعوذه ومخافته من عزازيل، الا انه يحمل عنه انطباعا بشكل محايد، حينما يرى في اصل عزازيل اراء واقاويل، بعضها منقول من ديانات الشرق ولم يعرفه المصريون القدامى، ويعد ان مولده في وهم الناس منذ زمن سومر القديمة، او ايام الفرس، ومنهم عرفه البابليون، ثم كان ذكره الاشهر في التوراة التي كتبها اليهود الاحبار بعد السبي البابلي. وقد روى عنه القدماء انه خلق الطاووس، اذ ورد في نقش قديم انهم عيروا عزازيل بانه لا يفعل الا القبائح ولا يدعو الا اليها، فاراد ان يثبت لهم قدرته على فعل الجمال فخلق هذا الطائر!
ويذهب زيدان ابعد من ذلك حينما يصور الانسان العادي بشكل شيطان متهتك، اذ نلمس ذلك في لقاء هيبا بأحد فتيان الطريق الذي يود الاعتراف بين يديه، وكان فتى بالغ الفحش والغرابة. اعترف اولا بمضاجعة عنزته، ثم اعترف بممارسته العادة السرية تحت انظار امه، وثالثة اعترف بمضاجعة الام، وما زال يود الاعتراف بأشياء اخرى. وحينما يبتعد هيبا عنه مكفهرا يعترف الفتى اخيرا بانه يفعل ذلك مع اخته، وهي صارت حبلى معه، وما زال يود الاعتراف ايضا وايضا..
ولا شك ان هذا هو ابشع انواع السرد القبطي في ادب الغرابة حينما يصف زيدان مرحلة المراهقة بهذه الافعال بدلا من التركيز على التغيرات الجسمية والمعنوية المعروفة كثيرا لدى المراهقين. هنا يجد هذا السرد نوعا من التلقي البالغ للانفعالات الجامحة المختلطة الغامضة بكل ما فيها من كراهة واشمئزاز، وكذلك اثارة الخوف الكبير والرهبة الملازمة للإحساس بالكبائر.
وبحسب سيرة هيبا، كان للتعصب والعنف اللذين مارستهما كنيسة الاسكندرية واتباعها المتطرفون حيال غير المسيحيين، واقدامهم على محاصرة العلماء والمفكرين الوثنيين وتشريدهم وقتلهم وتدمير معاهدهم الدراسية ومكتباتهم، اثر عميق في نفسه وفي تفكيره، وهو الذي شهد بعينيه حادثتين مروعتين من احداث هذا العنف اولها مقتل ابيه الصياد الوثني الفقير والتمثيل بجثته على مرأى منه وهو بعد طفل لا يتجاوز عمره التسع سنوات، ثم حادثة اخرى شهدها في شبابه هي مقتل عالمة رياضيات مصرية وثنية تدعى هيباتيا وتمزيق ثيابها وسحلها في شوارع الاسكندرية وتقطيع اوصالها قبل حرقها.
يمكن القول اخيرا ان يوسف زيدان قد تعامل مع فصول روايته او بشكل ادق مع رقوق مدونات هيبا الراهب بحساسية فنية مرهفة لا تخلو من الاسرار الخفية غير المحكية التي تندغم من الجليل والشبحي والذهني والاكتئابي. الا اننا هنا لا نزعم ان شواغل الكاتب الشخصية وحساسيته هما كل شيء. فهو ليس بالسارد التاريخي او الفطري الذي يطلق العنان لذاته حرة طليقة، بل هو يصقل هذه الشواغل الشخصية على خزين تجاربه الحياتية وثقافته الغزيرة لتتشكل في النهاية المعالم النهائية للبنية السردية القوطية الذاتية لديه. فهو يكتب هذا السرد بمهارة وصدق ويحاول ان يلتزم حدود قدراته الابداعية وتربيته وذوقه دونما ركض مصطنع وراء بريق الحداثة والتجديد.