ماتت الاشتراكية! عاشت الاشتراكية! بهاتين الجملتين، يمكن صياغة مفارقة يجب أن تميز كل نقاش حول الاشتراكية في الوقت الحاضر. لقد ظهرت الاشتراكية كحركة تاريخية حقيقية لمجموعات اجتماعية كبيرة في إنكلترا وفرنسا منذ أكثر من 200 عام. عندما ينظر الاشتراكيون إلى الماضي، فإنهم يرون بدايات جديدة مشعة في الأوقات المظلمة حقًا، والتي تسلط الضوء حتى اليوم على استكشاف إمكانيات جديدة في الحياة، وعلاقات اجتماعية وعلاقات جديدة بين الناس، وعلاقة جديدة مع الطبيعة. ويرون في الضوء الأسود الرمادي، اليأس والدمار والمخيمات والجدران. لا يمكن، من هذا، بناء دوامة تصاعدية بأمل أن يحمل حجم الهزيمة وعداً أكبر بالنصر. في الوقت نفسه، من الواضح أنه لا يمكن اعلان موت الاشتراكية. حتى أسوأ الانهيارات الذاتية لا تمنع إعادة الاشتراكية إلى جدول الأعمال من قبل هذه القوة الاجتماعية أو تلك. ويمكنك، مع آن بيتيفور (اقتصادية بريطانية جنوب أفريقية – المترجم)، تلخيص الأمر بهذا الشكل ايضا: يمكننا ان نختار البقاء كهدف. لكن كي نبقى على قيد الحياة، يجب أن يتغير كل شيء. كل شيء حقا”. بمفردة الاشتراكية تتلخص جودة النظام في تغيير كل شيء. من الضروري فقط إعادة تعريف هذا المصطلح.

بالقدر الذي أصبحت فيه حدود الرأسمالية واضحة للغاية، تحولت مرة أخرى، إلى رأسمالية حرب وكارثة، وتبخرت الثمالة بعد الانتصار المفترض على الاشتراكية في نهاية الحرب الباردة، وازدهر النقاش حول الاشتراكية مجددا. ان الاستقطاب الاجتماعي الصارخ والكارثة البيئية وعواقب الأزمات الاقتصادية الجديدة وكذلك الحروب الجديدة وعسكرة السياسة الدولية هي علامات على الجدار. يشترك العديد من اليساريين في الرأي مع بهاسكار سنكارا (سياسي وكاتب وصحفي يساري امريكي -المترجم): في ان “الإجابة النهائية على السؤال “لماذا الاشتراكية بسيطة: لانها ستكون أفضل ضمانة للسلام” تُفهم الاشتراكية على أنها رسالة سلام، سلام للناس، سلام للدول مع بعضها البعض، وسلام أيضاً مع الطبيعة. مفردة أخرى لهذا السلام هي التضامن، إذ يبدو أن التنافس الرأسمالي والحرب يشكلان كلا واحدا جديدا.

ان هزائم اليسار منذ السبعينيات وخضوعهم لليبرالية الجديدة والرأسمالية المالية، مرتبطة أيضاً بحقيقة أنهم (اليسار) في محاولتهم لتحقيق اختراقات تحررية جديدة، لم يكونوا قادرين، في الوقت نفسه، على تجديد الإرث الشيوعي. وقع هذا الإرث وما يرتبط به من مقاربات حزب شيوعي، الملكية المشتركة، الإرادة المشتركة، والمجتمع ضحية الحكم الشمولي والسلطوية. ان الحركات اليسارية التي تنبذ الشيوعية لم تعد يسارية وتصبح مجموعة ثانوية من اللعب الليبرالية.

في عصر الأزمات الجديدة والكوارث ورأسمالية الحرب، ليس مصادفة أن مناقشة جديدة للاشتراكية تشق طريقها إلى المجال السياسي والعام. لقد انتهى زمن الصمت بعد “الموت الغريب للاشتراكية” (رالف داريندورف). لكن هذا يتطلب إعادة النظر في مسألة مفهوم الاشتراكية. يحتاج كل عصر من النضال من أجل التغلب على الرأسمالية إلى فهمه الخاص للاشتراكية. ولا يكفي أن ندرك أن المجتمعات التي يهيمن عليها تدوير رأس المال تجعل الحياة الكريمة مستحيلة للجميع. حدد إرنست بلوخ أهمية المصطلحات لممارسة تحولات تحررية بشكل أكثر جوهرية: أكد أهمية المفاهيم الواضحة لتعامل محدد الأهداف: “وبالتالي، فإن التفكير القاطع الدقيق له الكلمة الأولى، ولفترة طويلة، الكلمة الواضحة دائماً في الوقت المناسب، ولكن ليس الكلمة الأخيرة، وفقًا للمهمة المطلوبة، اذ أن التعامل يعني التغيير. لكن لا يحدث تغيير بدون مفهوم، باعتباره هيئة الأركان العامة للتحول وبالتالي الوصول الممكن، بحيث لا تصل إلى مكان آخر غير المقصود حقا”.

ان إعادة تأسيس الاشتراكية تتمتع براهنية، لأنه، في رأيي، لا يمكن أن تكون الحركات الناجحة خارج الرأسمالية ممكنة إلا إذا قبلت الحركات الاشتراكية التناقض بين الليبرالي والشيوعي. إذا دافعت عن حرية الأفراد وتطورهم الشخصي، فهي بحاجة إلى النضال من أجل المجتمع. وإذا ناضلت من أجل المجتمع، يجب أن تدافع عن حرية الفرد. ان الهروب من التناقضات الواردة فيه هو الهروب من أي حركة حقيقية تتغلب على الرأسمالية. إن الرغبة في الحرية وحقوق الفرد والواجب تجاه المجتمعات مرتبطة ببعضها بشكل لا ينفصم. والربط بينهما صعب، وغالباً ما يكون مؤلماً، ويتطلب تنازلات. لكنه ينمو من الأضداد، إذا تم التعامل معها بشكل تحرري ومتضامن، فإن تلك الحركة الاشتراكية تنمو وقادرة على إلغاء الواقع الرأسمالي الحالي. ليس لليسار مستقبل إلا إذا أدرك هذين المصدرين العاطفيين والمعيارين، النظري والفلسفي للاشتراكية واستمد منهما، في تناقضهما، القوة لقيادة النضالات بثقة ضد الحروب، والتدمير البيئي والانقسامات الاجتماعية.

إذا كان هناك “درس” من التاريخ، فهو عدم وجود شيء أخطر من وهم القدرة على الهروب من تناقضات الحركات التحررية. هذه يوتوبيا خاطئة أساسا، ومثيرة للغضب، تجعلك كسولًا وعدوانياً تجاه المعترض. إنه أفيون اليسار. إن رفض تناقضات التحرر في الطريق إلى مجتمع ما بعد الرأسمالية ليس تعبيرا عن الجذرية. تشير تناقضات الحركات الاشتراكية اليوم إلى التناقضات في المستقبل، وعلى العكس من ذلك، فإنها تتوقعها. الذي يرفض التعامل مع تعقيد هذه التناقضات يرفض السياسة الواقعية الثورية حقا، بالمعنى الذي تؤكده روزا لوكسمبورغ. يمكن أن تتغير، طبيعة التناقضات في الحركات الاشتراكية، التي توصل أهدافا قريبة وبعيدة، في كل مرحلة نشأت فيها. ويجب أن تتغير الطريقة التي يتعامل بها اليسار مع تناقضات الاشتراكية، لأن اليسار في أزمة. وأي محاولة للهروب من التناقضات محكوم عليها بالفشل لأن مصدر كل حياة يكمن في التناقضات.

للتعبير عن مفهوم الاشتراكية بجملة واحدة: الاشتراكية هي شكل من أشكال التضامن بين مطالب حرية الأفراد والأسس الشيوعية في المجتمعات المعقدة الحديثة، لغرض تمكين الناس من عيش حياة مرضية في عالم غني بالفرص، بمسؤولية تجاه بعضهم البعض. وينصب التركيز على أولئك المحرومين بشكل خاص. ان تحسين حياتهم هو مقياس السياسة الاشتراكية. والهدف من ذلك هو التخلي عن كراهيات الرأسمالية التي لا يحدث فيها تطور البعض إلا على حساب البعض الآخر. هذه ليست “مصالحة” بين الليبرالية والشيوعية من خلال إلغاء تضادهما، ولكنها تسوية شاقة وقاسية في كثير من الأحيان لهذه الأضداد على وجه التحديد بهدف اشتراكي. يجب الحفاظ على الاهتمامات المشروعة لهذين التيارين الكبيرين في العصر الحديث. وهذا يتطلب إيجاد وتنفيذ تلك الأشكال الاجتماعية التي يمكن العمل عليها بتضامن. ولا يمكن فهم الاشتراكية سوى انها: “ الحركة الحقيقية التي تلغي الوضع القائم” (ماركس وانجلز)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*البروفيسور د. ميشائيل بري رئيس المجلس الاستشاري العلمي لمؤسسة روزا لوكسمبورغ، وهو باحث في مجالات من بينها، تاريخ ونظرية الاشتراكية والشيوعية. والترجمة لمقالته المنشورة في موقع المؤسسة في 16 آب 2023، وهي اختصار مكثف جدا لمقدمة كتابه “اكتشفوا الاشتراكية مجددا” الصادر حديثا. نشرت ترجمة المقدمة في مجلة (الثقافة الجديدة) العراقية في العدد 437 في أيار 2023.

عرض مقالات: