كان الهجوم الذي نفذ في 7 تشرين الأول في العمق الإسرائيلي لأول مرة منذ 75 عاما هو عمر الحروب العربية - الإسرائيلية، صادما ومفاجئا في تفاصيله وتكتيكاته الميدانية والسياسية ايضا، ولكنه لم يكن مفاجئا في إمكانية حدوثه، فهو انفجار منطقي ونتيجة لتراكم احتلال الأرض ومصادرة الحقوق الفلسطينية، وعمليات قضم الأرض واجتثاث الفلسطينيين، التي لم تتوقف يوما. وفي راهنه مثل نتيجة لتصاعد القمع وبناء اركان دولة الفصل العنصري الإسرائيلية، والتي بلغت ذروتها على ايدي الأكثر تطرفا ورجعية في تاريخ الدولة الصهيونية.

ليس مهمة هذه المساهمة ملاحقة مجريات الحرب اليومية المتسارعة والمفتوحة النتائج، ولكن ما يهمني هو هذا الهوس الغربي في الوقوف الى جانب إسرائيل والدفاع عنها، بما يتعارض حتى مع ابسط قيم "الحضارة" الغربية، والغريب ان هذا الهوس لم ينحصر في أوساط اليمين ولا حتى في الأوساط المصابة بعقدة ذنب تاريخي، ارتباطا بجرائم النازية والفاشية بحق سكان اوربا اليهود، وكأن إسرائيل الحالية بكل الإرهاب الذي تمارسه تمثل ضحايا الماضي وتستمد شرعية جرائمها من جرائم طالت الملايين ولم تطل نظامها.

تتحدث حكومات الغرب ومؤسسات اعلامه المهيمنة عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وتدين حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، وهو حق ضمنه القانون الدولي وكل منظومات حقوق الانسان وقيمه الأخلاقية. ويصمت هذا الغرب الديمقراطي عن الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال واجهزته الأمنية، وكذلك اعمال العنف التي ترتكبها عصابات المستوطنين المتطرفين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي تصاعدت بشكل مفضوح، مستفيدة من تواطئ حكومة ومؤسسات دولة الاحتلال، التي شجعت هذه الاعمال البربرية، وضمنت افلات الجناة من العقاب، ويمكن هنا الإشارة على سبيل المثال لا الحصر الى الهجوم الوحشي في تموز الفائت، على مخيم اللاجئين في جنين.

الازمة السياسية والاجتماعية التي تعيشها إسرائيل، والتي عكستها الاحتجاجات الحاشدة ضد عمليات " اصلاح" النظام القضائي، والذي لا ينفصل عن انقسامات عميقة داخل المؤسسات الصهيونية حكومة ومعارضة، وفرت فرصة استثنائية لصعود اليمين المتطرف الصهيوني من الوصول الى مراكز السلطة. ومعروف ان هذه التيارات الفاشية تتبنى برنامجا يقوم على فكرة ضم كامل الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، بالإضافة الى مرتفعات الجولان الى إسرائيل، بواسطة تطهير اثني واسع للشعب الفلسطيني في نسخة معاصرة من عمليات الإبادة التي سبقت ورافقت قيام إسرائيل في عام 1948

ومن البداهة، التي أصبحت غريبة عن اذهان قادة وأنصار الديمقراطية الغربية، استحالة استمرارحرمان شعب من ابسط حقوق الوجود الإنساني، واستمرار عمليات الاستيلاء المستمرة على الأرض والمنازل، والاغتيال العلني للناشطين الفلسطينيين، وملاحقتهم واعتقالهم وتعذيبهم، ودفعهم في أتون فقر متنام دون ان يحدث الانفجار الذي لا زالت فصوله تتوالى. ولن يغير من جوهر الحق الفلسطيني حملات الغرب الإعلامية وهستيريا التضامن مع إسرائيل، وكذلك ابتعاد أوساط ليبرالية وتقدمية وبعض اليسار الأوربي عن هذا الجوهر، عبر تحليلات تستند الى تنوع وتباين رؤى القوى السياسية الفلسطينية، وكذلك طبيعة حركة حماس الفكرية ومسارها التاريخي. ان مركز الاهتمام يجب ان يتوجه لإدانة عمليات الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، والدعوة لتجنيب جميع المدنيين آثار الحرب، وعدم جعلهم هدفا رئيسيا، وبشكل ممنهج، كما يفعل جيش الاحتلال بمئات الآلاف من سكان القطاع.

 ومن المهم ان نذكر الذين يتحدثون اليوم عن “الإرهاب الفلسطيني”، بالرد الإسرائيلي على "مسيرة العودة الكبرى"، التي نظمها الفلسطينيون كشكل من اشكال المقاومة السلمية في عام 2018. كان الرد الإسرائيلي قتل المئات من المتظاهرين السلميين بالرصاص الحي، وكان بين الشهداء 46 قاصرا. أضف الى ذلك عمليات القتل التي طالت 1391 فلسطينيا، بينهم 318 قاصرا في عامي 2008 و2009،، وتدمير أكثر من 3500 منزل، وترك عشرات الآلاف بدون مأوى، وتخريب البنية التحتية ومختلف الخدمات الأساسية الأخرى في غزة، في سياق ما سمي بعملية "الرصاص المصبوب" وهو الفعل الذي تكرره إسرائيل اليوم.، ولكن بمديات اوسع. وكذلك التذكير بـ “عملية الجرف الصامد” في عام 2014، والتي قتلت خلالها إسرائيل 2203 فلسطينيين، منهم1372 لم يشاركوا في المواجهات، بما في ذلك 528 قاصرا، ودمرت أو ألحقت أضرارا جسيمة بأكثر من 18 ألف منزل، مما أدى إلى تشريد أكثر من 100 ألف فلسطيني. وليس هذا سوى غيض من فيض جرائم دولة الاحتلال.

وربما بمستطاع إسرائيل ان تقصف غزة وتلحق بها المزيد من الدمار، كما هو حالها اليوم، ولكن   من الصعب على إسرائيل ان تبقي القطاع محتلا. وهذا ما دفع ارييل شارون باتخاذ قرار الانسحاب وتنفيذه لاحقا في عام م 2005، وتأكد ذلك ثانية بعد الغزو الإسرائيلي الكارثي لغزة في عام 2014، ا فمن المستحيل قمع وإخضاع أكثر من مليوني انسان لفترة طويلة بوسائل عسكرية بحتة.

 وحتى الإعلان عن حكومة الطوارئ الوطنية مع جزء من المعارضة، على خلفية الهزيمة الإسرائيلية، لا ينفي حقيقة تصدع المعسكر الصهيوني المهيمن، لكنه يؤشر ان الاختلافات بين هذه الأطراف تصبح ثانوية، عندما يتعلق الامر بنضال الشعب الفلسطيني المشروع في سبيل إقامة دولته الوطنية المستقلة.

زيارات التضامن الامريكية والغربية، والتصريحات المتوالية بدعم لا محدود لماكنة الحرب الإسرائيلية، وعدم الإشارة ولو من بعيد لحقوق الشعب الفلسطيني، على الرغم من تدني الدعم للصهيونية في المجتمع الأمريكي، نتيجة للسياسات العنصرية المتطرفة للحكومة الإسرائيلية، تعكس تشبث مؤسسات السلطة في الولايات المتحدة وحلفائها بهذا النهج.، الذي تؤكده معطيات الدعم لجيش الاحتلال التي وصلت، حتى قبل اندلاع الاحداث الأخيرة الى قرابة 3.6 مليار دولار سنويا. وليس جديد القول، ان إسرائيل هي الحليف الوحيد المضمون الجانب، بالنسبة للولايات المتحدة في المنطقة. وبعيدا عن تصاعد النقد للسياسات الإسرائيلية، ستقف أمريكا وبلدان المعسكر الغربي مع الصهيونية العالمية وصنيعتها التاريخية. وعليه فان الامبريالية الغربية تتحمل كامل المسؤولية عن حملة الانتقام والحصار الشامل الذي يتعرض له سكان القطاع منذ سبعة أيام.

ان أحد النتائج السياسية لملموسة، لما يجري اليوم في غزة، هو إيقاف مسلسل التطبيع المجاني المستمر بين بلدان الخليج وإسرائيل، فحتى حكام الخليج وأخرهم السعوديون، لا يستطيعون تجاوز الرفض الهائل لإسرائيل الذي تراكم لدى سكان بلدانهم والبلدان العربية الاخرى، وهو ما عكسته مسيرات التضامن التي جرت في عدد من هذه البلدان.

إن التصميم والتنظيم الذي أبداه الشباب الفلسطيني، خلال العامين الماضيين في تأسيس جيل جديد من المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال في الضفة الغربية، كشف هشاشة أي تسوية “سلام” وهمية لفلسطين والشرق الأوسط لا تشمل الاعتراف الكامل بحقوق الفلسطينيين.

ورغم تراجع كبير في زخم حركة التحرر في البلاد العربية، لكن مقاومة الشعب الفلسطيني في جميع الأراضي المحتلة لن تنقطع يوما واستمرت بأشكال مختلفة وشهدت لحظات صعود وهبوط وسجلت محطات تاريخية هامة.  وجاء الانفجار الأخير ليشعل ازمة عميقة، لم تأت من فراغ، بل كانت تتشكل، وان تكتيكات حماس في جانب منها، استجابة، لرغبة الشبيبة الفلسطينية في التحدي والمقاومة، لأحداث تغيير ملموس، بعد ان خذلهم خطاب السلطات الرسمي في فلسطين والبلاد العربية الأخرى.

ان التطورات الجارية، وطبيعة مشروع الحكومة الفاشية في إسرائيل، في تحويل سكان غزة الى مشردين، وضم القطاع وبعده الضفة الغربية للكيان الصهيوني، يتطلب وقفة جادة من شعوب البلدان العربية وبلدان العالم الأخرى، وتضامن استثنائي من قوى اليسار والتحرر والإنسانية في العالم اجمع. ورغم صلافة الحاكمين في الغرب، وضجيج مؤسساتهم الإعلامية في إضفاء القدسية على وجود إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، لكن هناك صورة أخرى جسدتها مواقف العديد من البلدان في الصين وامريكا اللاتينية وبلدان أخرى، الى جانب التضامن الذي عبرت عنه العديد من الأحزاب اليسارية والتقدمية والحركات الاجتماعية مع النضال الفلسطيني المشروع.

 

*- نشرت لأول مرة في جريدة المدى في 15 تشرين الأول 2023   

عرض مقالات: