البحث في تقنية النظام الزمني في السرد، تتمخض عنه اهمية تتعاضد مع عدة عوامل، تعطي بمجملها خصائص العمل ذاته ومنتجه أيضاً، ثم علاقة الاثنين معاً بالمتلقي ومستوى إدراكه واستقباله، وتكشف في المحصلة قدرة السارد في الادارة والتوجيه مع اضافة الروح الجمالية الفنية، فيبرز زمن الحكاية ذو التسلسل المنطقي، وزمن السرد، الذي يفترض احترامه لتسلسل الزمن الميقاتي، الذي جرت فيه أحداث الحكاية.
فالزمان وجود وهمي او هو لاوجود، والفصل بين الزمان والمكان مدخل فلسفي يتعلق برؤية ما، لأن وجود الانسان في المكان كله مؤسس على الزمن، وميشال بوتور وضع للزمن في الكتابة السردية ثلاثة مستويات : مستوى الكتابة ومستوى القراءة ومستوى المغامرة، وهذه المستويات يدخل فيها اختلاط الزمن بالمكان، فالمكان هو الحركة التي تصنع مظاهر الوجود، والوجود والزمان مترادفان، لان الوجود هو الحياة، والحياة هي التغير، والتغير هو الحركة، والحركة هي الزمان.
فتعامل الكاتب محمد خضير سلطان مع زمن الحكاية، وكأني به يعيش لعبة التخفي بين الزمن الماضي والزمن الحاضر، معتمدا "تنوع الجغرافيا الثابتة وعمق التاريخ المتحول بين الماء والصحراء والسهل والجبل". فحكايات الجدة، ثم مذكرات الاب، محاولة منه لرسم معالم السلطة، وهذا صراع اشار له الكاتب بقوله :"آل فالح ينتدبون رواتهم مثلما يرشحون قتلتهم، يديرون معاركهم كما يختارون مؤرخيهم..".
ونحن نشير الى ان الكتابات العراقية الروائية جلّها تعتمد وثيقة الحرب في مجابهة الواقع الآن، وقد تعزو مآسي الانسان الى الحرب، وارى ان رواية "شبح نصفي"، تخطو في هذا الطريق، لكن الكاتب سلطان حاول تطعيم هذه الوثيقة المأساة بحكايات المئات من السنين الخالية، وبقي يحاور الجميع، أي مآسي الان الكامنة في ازمان الحروب المتوالية، ومآسي القَبل، أي الماضي، محاولة منه لتهشيم المسافات الزمنية بينها.
وفي رؤية الكاتب ان الانسان واحد، وهو يبقى يتأسى على آل فالح، الذين اضاعوا مئات السنين، كما اضاعوا المائة الاخيرة منها.
ورواية "شبح نصفي" شاشة تستعرض مشاهد محتشدة بالصخب، صخب الرفض والخوف، مع ملاحظة قلق الكتابة التي تبدو على الكاتب بنص قوله : "اكتفي بتسجيل عدد الملاحظات عن مقاتل في الفيافي، مغازي طرقات قديمة وحديثة، انحطاط بشري في سورتي الشراسة والجشع، نواح بقدر ظلام الماء، نسخة رعوية مخبأة في روح العائلة، نزوح، هروب، مُلك مُضاع، ملوك نهمون يأكلون شعوبهم، وسرعان ما يتسرب الملل، فتذهب كتابتي مثل اختفاء أعشاب صغيرة طافية في مجرى مائي بطيء".
ويتصاعد القلق مع الكاتب، كون "آل فالح تخلخل في كون صحراوي مركزه قافلتهم السائرة منذ مئات .."، فـ"يتبدى في قليل من العتمات نصف شبح، نصف طيف، نصف يقول كل شيء ولاشيء، وبالتالي لاشيء يبدو على مستوى من الجدية والحزم"، فالكاتب مأخوذ بالحكايات، وهي تتزاحم وتحاول ان تستطيل منه، لكنه بقصدية يحاول رصّها بهدف ابراز الثيمة الرئيسة للرواية. رغم هذا فان الثيمة تتشظى معانيها الى مساحات فكرية اخرى، واستمر الكاتب بقلق يعالجها.
وكما نعلم ان "السرد والوجود شيئان متلازمان، وان الانسان ما هو الا حكاية"، وهذه التصورات لازمت الكاتب سلطان، وتركت ظلالها على روايته "نصف شبحي"، حيث ابقى نصوص الرواية مفتوحة على الاحتمالات والتأويلات، فهو قلق، وبقي يديم القلق، فهو أمام إشكاليات ومشاكل اجتماعية لها تأثيرات كثيرة..
يقول نص الرواية : "انهم رحلوا وظلت وثائق ملكهم المسجل بأسمائهم الحية، سواء في سجلات الطابو، أوفي رقيم مدفون في ارجاء الحقل الواسع، تعمل كما لو كانوا أحياء، فلا احد بمقدوره ان يُسقط المُلك العتيق الملحق بالموتى، بل جاء الموتى لموتهم، لكي ندير املاكهم نحن الاحياء، فالمُلك لا يموت مع صاحبه .. وصاحبه لا يموت مع ملكه"، فيبدو النص غرائبي عجائبي، وهكذا تزداد هذه الغرائبية .. والكاتب يتخفى! غير انه يخرج بين الفينة والاخرى في الزمن الماضي، سرعان ما يكون في الزمن الحاضر، واصفا الصخب بأنه "مكنسة هائلة، تمسح الذاكرة والرعب والدم عن الارصفة وشظايا الزجاج المتناثر من الانفجارات"، وتبقى الإشكالية مستمرة في مراحل اكتمال الرواية، إشكالية الزمن وتداخله.
يقول النص في ص33 : "لا شيء يجعل أسعد الفالح منسجما مع نفسه أكثر سوى أن يعالج الأطياف النصفية، التي يراها من خلال أوراقه وشاشة جهاز الكمبيوتر، وكونه طالبا في الدراسات الإنسانية العليا، يعتقد ان كل الوقائع الغامضة شفوية لا تستوي الا في التنظيم والتدوين، والأوراق البيض الملآى بالملاحظات دائما ما تخفف من غرابة الأشياء وتطلق تجلياتها مثل انبلاج فجر قديم"، فـ "مقاتل آل فالح تمتد الى حقب زمنية عميقة، وتتخللها أجواء خرافية وأسطورية، وحتى اشبه مدينية وحواضرية كثيرة".
وقد لا تهدأ الصراعات، الا بعد ان تذهب هذه الخزانة الى المتحف وقد يكون ذهابها يُحتم البحث عن سبب الصراع، لكن دون جدوى "في ظل فداحة الصور واخلاطها البشعة، تسقط نافذة الناصر وتمزق وصية الأب وتصبح حقيبة عبدالله العامر مثل رحلة المسافة بين السجان والسجين .."، وقد يكون الصراع كامن في "الحركة المفقودة في جدارية سليم" .. وهل يجدون انصاف الاشباح، التي يبحث عنها الكاتب محمد خضير سلطان في روايته "شبح نصفي"!