يتلقى العالم رسائل متناقضة حول تركيبه الطبقي، فهو، حسب رواية مرجعية، قد بلغ «نقطة الفصل الكونية»، ذلك أن «نصف سكان المعمورة هم من أبناء الطبقات الوسطى أو الثرية». والرواية مبنية على بيانات جمعها هومي خاراس، من كبار اقتصاديي البنك الدولي سابقا، والذي يعمل حاليا في مؤسسة «بروكينغز». والأكثر إثارةً أن مجلة «إيكونومست» قد حيّت «الصعود اللاهوادة فيه» لـ«برجوازية نامية» واحتفلت بمجيء عالم من الطبقات الوسطى. غير أن المنهجية الأكاديمية الجادة تؤكد العكس أيضا: فبحسب بيتر تيمين، البروفسور الممتاز للاقتصاد في جامعة «أم آي تي»، ينبغي أن ينشغل بالنا بصدد «اختفاء الطبقة الوسطى». (1) ويمكن المغفرة للقراء لشعورهم بالذهول، فما الذي يجري في عالم الاقتصاد وفي السوسيولوجيا الاقتصادية للعالم الحقيقي؟ ستتفحص هذه المساهمة التعريفات المتنوعة لـ«الطبقة الوسطى» الواقعية وللمسارات المتباينة التي حللها اقتصاديو التنمية وعلماء الاجتماع والصحافيون الماليون عبر القطاعات المختلفة للاقتصاد العالمي. ثم ننتقل إلى رسم مستقبل للطبقات الوسطى في العالم يختلف بعض الشيء عن النقيضين المستشهد بهما أعلاه. ولكن يتطلب الأمر أولاً معالجة بعض الاعتبارات التاريخية والمفهومية، ذلك أن مفهوم «الطبقة الوسطى» مثار نقاش منذ زمن طويل.

دخل مصطلح «الطبقة الوسطى» اللغة الإنكليزية منذ قرنين من الزمن - «ما بين ١٧٩٠ و١٨٣٠ تقريبا» - حسب إريك هوبزباوم، فيما المجتمع الصناعي الصاعد يتجاوز التراتب «العسكري» للمَلَكية والأرستقراطية. (2) وقد شهد القرن التاسع عشر نقاشا حاميا حول الوجهة التي يتجه إليها ذاك المجتمع الجديد وحول موقع الطبقة الوسطى داخله. كانت المحاجّة الليبرالية تقول إنه يجب أن تقع مهمة الحكم على عاتق الطبقة الوسطى، وإن ذلك سوف يتحقق حكما، لأنها «الجزء الأوفر حكمة والأرقى فضيلة في الجماعة» كما قال جيمس ميل. (3) ولكن هل تحقق ذلك؟ يقول [ألكسيس دو] توكفيل، في نص مكتوب العام ١٨٥٥، إن حكم الطبقة الوسطى قد تحقق ليس فقط في الولايات المتحدة الأميركية وإنما في فرنسا أيضا، حيث مثلت ثورة تموز ١٨٣٠ انتصارها «الحاسم» و«الكامل».(4) وهل مجتمع الطبقة الوسطى الصاعدة هذا يؤدي إلى نظام سياسي جديد ومستقر؟ دار التساؤل على نحو متزايد في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. نشأت مذاهب فكرية جديدة، حشدت الأفكار، وأولها وأبرزها الاشتراكية، التي نظّرت أن «مجتمع الطبقة الوسطى» إنما هو الرأسمالية، المحكومة بأن يقضى عليها مع توسع صفوف الطبقة العاملة الصناعية.

الطبقة الوسطى والبرجوازية

الأكثر إثارة للاهتمام هو أن نقاشات القرن التاسع عشر كان لها التنوع المفهومي الغائب كليا عن المعالجات الحالية لـ«الطبقة الوسطى». وقد نتج ذلك من ازدهار عدد من اللغات القومية، لكل منها تاريخه المميز للتكون الطبقي والصراع الطبقي. ففي أوروبا الغربية كانت ثلاثة مفاهيم رئيسة تدور مدار ظاهرة اجتماعية مشابهة، كل منها ترى إليه من زاوية مختلفة تماما عن الآخرَين: في مقابل Middle   class  البريطاني كان تعبير Burgertum الألماني و«البرجوازية» Bourgeoisie  الفرنسي. (5)  ويعود أصل الأخيرين إلى القانون المديني القروسطي، للدلالة على فئة من سكان المدن تتمتع بحقوق مدنية وسياسية مميزة. بعد الثورة الفرنسية، تطور مصطلح «برجوازية» ليصير مطابقا إلى حد كبير لمصطلح «الطبقة الوسطى» البريطاني و les classes moyennes الفرنسي. لكنه اتخذ دلالتين متمايزتين. كانت الواحدة ذات دلالة تجريحية من الناحية الثقافية كما في عبارة [غوستاف] فلوبير «إن الحقد على البرجوازية هو بداية كل فضيلة». (6)

ابتداءً من سبعينيات القرن التاسع عشر، برز تمايز واضح بين البرجوازية والشريحة الاجتماعية «الوسطى» أو «الجديدة». باتت البرجوازية تشير إلى كبار مالكي رأس المال من مصرفيين وصناعيين يتربعون على قمة الهرم المجتمعي – أي أنها تشير بعبارة أخرى إلى الطبقة العليا. (7) أما الطبقة الوسطى – Mittlestand الألمانية، أو Petite bourgeosie أو Couches moyennes  البرجوازية الصغيرة أو الفئات المتوسطة، الفرنسية، فأمر آخر. في «البيان الشيوعي» مدح ماركس وإنغلز أيّما مديح الدور التاريخي «الثوري» الذي لعبته البرجوازية، وقد ظهرت بما هي تجسيد لرأس المال والعدو اللدود للطبقة العاملة.

وثمة فرق لافت آخر: العمل بما هو صفة وقيمة حاسمتان للطبقة الوسطى في القرن التاسع عشر، وهذا ما ميزها عن النبالة المتعيّشة على الريع. «العمل زينة البرجر/ ابن المدن»، كتب فريدريش شيللر في أغنية شهيرة. «بوركَ من وجد عمله/ ولا حاجة له لأن يسعى إلى أي نعمة أخرى»، يكمل طوماس كارلايل في «ماض وحاضر»(8) تُعرّف الطبقة الوسطى، غالبا في النقاشات المعاصرة، بناء على معيار الاستهلاك، والأحرى بناء على طاقتها على الاستهلاك، وتقاس هذه الطاقة بالدولارات (مع تعديلها حسب معايير القدرة الشرائية الدولية)؛ وأحيانا يجري تمييز الطبقة الوسطى عن طريق موقعها الوسيط في الهرم الوطني لتوزيع الدخل – ولكنها لا تعرّف أبدا بعلاقاتها بالعمل. وهذا نافر بنوع خاص ما دام الاستخدام الأميركي المعاصر للمفهوم يقدم المصطلح بما هو كنية للطبقة العاملة.

ما الذي يترتب على هذا التحوير في خطاب الطبقة الوسطى من العمل إلى الاستهلاك؟ ها هي مجلة «إيكونومست» تعطينا الدليل وهي تحيّي بحماسة ارتقاء «مليارَي برجوازي» جديد. (9) وهي تحية انتصار وقوة، مثلها مثل دخول «الرأسمالية» إلى قاموس كبار المدراء التنفيذيين. فما دامت الاشتراكية لم تعد خطرا، يمكن ركن مصطلحات مثل «رأسمالية» و«برجوازية» في الهامش والاستعاضة عنهما بـ«اقتصاد السوق» و«البزنس/ الأعمال». وكما سوف يتبين لنا، يشكل التغير في الخطاب نقلة هامة في الهيمنة الاجتماعية. ولكن علينا قبل ذلك أن نتفحص الظروف التي أدت إلى نشوء التفكير الجديد عن الطبقة الوسطى في القرن الواحد والعشرين.

على عكس ما توقع مِيل وتوكفيل، لم يفتتح القرن التاسع عشر نشوء عالم الطبقة الوسطى، ذلك أن القرن العشرين كان يُعرّف قبل أي شيء آخر بأنه عصر الطبقة العاملة. وعلى الرغم من أن الديموقراطية الاشتراكية والشيوعية وُلدتا في أوروبا، إلا أن اشتراكية الطبقة العاملة تحولت إلى نموذج عالمي، نشاهده في الثورتين الصينية والفيتنامية، وفي ارتداداتهما عبر آسيا الشرقية والجنوبية الشرقية؛ وفي ثورات المكسيك وكوبا الكاستروية، كما في الحركة التقدمية الواسعة في أميركا اللاتينية – وفي الأرجنتين خلال عهد پيرون، والبرازيل في عهد ڤارغاس، من دون أن ننسى «حزب العمال» البرازيلي الأحدث عهدا – وفي النضالات المعادية للاستعمار، من «حزب المؤتمر» بقيادة نهرو إلى «المؤتمر الوطني الأفريقي» في جنوب أفريقيا مرورا بالاشتراكية العربية. كانت الطبقة العاملة القوة الرئيسة في إنجاز الاقتراع العام ودولة الرعاية إلى كونها الحليف الرئيس للحركات النسوية والمعادية للاستعمار– مع أنها نادرا ما كانت حليفا نموذجيا. وكانت الطبقات الوسطى في حالة سبات خلال فترات الثورة والإصلاح تلك في القرن العشرين، لكنها اكتسبت أهمية مع صعود الفاشية والسلطات الاستبدادية. على أن القوة الدافعة للإصلاح بقيادة الطبقة العاملة بلغت ذروتها في ثمانينيات القرن الماضي قبل أن تتقهقر سريعا.

هوامش

1.Homi Kharas and Kristofer Hamel, ‘A Global Tipping Point: Half the World is Now Middle Class or Wealthier’, Brookings Future Development Blog, 27 September 2018; ‘Burgeoning Bourgeoisie’, Economist, 14 February 2009; Peter Temin, The Vanishing Middle Class, Cambridge ma, 2017.

2.Eric Hobsbawm, ‘Die Englische Middle Class, 1780–1830’, in Jürgen Kocka, ed., Bürgertum im 19. Jahrhundert, vol. 1, Munich 1988, p. 79.

3.James Mill, ‘Essay on Government’ [1829], quoted from Hobsbawm, ‘Die Englische Middle Class’, p. 81. إن آراء ميل عن حكمة وفضيلة الطبقة الوسطى لا تزال تلقى صدى لدى اقتصاديي التنمية وعلماء السياسة في أيامنا هذه، فكأن تلك الطبقات لم تدعم الفاشية والدكتاتوريات العسكرية في تلك الأثناء.

4.Alexis de Tocqueville, Souvenirs [1855], cited from Peter Gay, Schnitzler’s Century, New York 2002, p. 14. اتجه المؤرخون المتأخرون إلى الموافقة على أن السلطة والامتيازات التي تمتعت بها أرستقراطية الأرض استمرت في معظم أنحاء أوروبا إلى العام ١٩١٤. راجع: Arno Meyer, The Persistence of the Old Regime, New York 1981.

  1. لمزيد من التفاصيل، راجع المشروع البحثي الهام الذي يديره Jürgen Kocka, Bürgertum im 19. Jahrhundert, 3 vols, Munich 1988.

6.Letter to George Sand, here quoted from Gay, Schnitzler’s Century, p. 29.

7.Adeline Daumard, Les bourgeois et la bourgeoisie en France, Paris 1987.

  1. Gay, Schnitzler’s Century, p. 192

9.‘Two Billion More Bourgeois’, Economist, 14 February 2009 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ علم اجتماع سويدي، يدرّس في جامعة كمبريدج، إنكلترا. له عدة مؤلفات عن البنية الطبقية للمجتمع ووظائف أجهزة الدولة والأيديولوجيا ومابعد الماركسية

*مجلة «بدايات» – العدد 35 – 2022

عرض مقالات: