في مساعيه لأدامة وتوسيع تدفق السلاح والذخائر الحربية والأموال والدعم التكنولوجي، للسيطرة على ساحات المعارك، ولإلحاق أكبر أذى ممكن بروسيا والقوات الروسية، لا يتوقف زيلينسكي عن ترديد مقولة أنه يدافع عن أوربا و (( العالم الحر )) ضد الغزو الذي ينتظرهما على يد (( النظام الأستبدادي )) الروسي وقواته المتوحشة في حال أنتصارها على قواته.
على الجانب الآخر وفي مسعاه لحشد قدر من التأييد لبلاده التي تعاني شتى أنواع العقوبات، يذكرنا بوتين كل يوم أن روسيا تخوض (( معركة تحرير العالم )) من استبداد واستعباد الغرب واستبدال نظامه الدولي، نظام القطب الواحد، بنظام أكثر عدلا تتعدد فيه الأقطاب. وأن أرض أوكرانيا هي ساحة المواجهة العالمية المقدسة.
ويمكن القول أن مجتمعات العالم، بغض النظر عن مواقف دولها وحكوماتها، منقسمة على بعضها. المجتمعات الأوربية تتعاطف مع أوكرانيا، ومع أنها تئن من عواقب دعم حكوماتها لكييف بالسلاح، وبالعقوبات ضد روسيا التي ارتدت عليها، ومن استغلال الولايات المتحدة للأوضاع الصعبة الناجمة عن ذلك، إلا أن الغالبية في هذه الشعوب قد تشبعت، وعلى خلفية تراكمات تأريخية، بفكرة أن روسيا منبع شر تأريخي بغض النظر عن نظام الحكم فيها، سواء كان قيصريا أو بلشفيا أو بوتينيا. وترى بعض شرائح من هذه المجتمعات أن الديمقراطية التي تتمتع بها مهددة من مصدر الشر هذا.
في المقابل تميل مجتمعات بلدان العالم الثالث، الى السردية البوتينية أو الروسية عن الصراع، كونها خبرت في أكثر من مرة، وفي غير بقعة من بقاعها ما تنطوي عليه أناشيد الغرب عن الديمقراطية، وشرعية النظام الدولي الجميل، المهدد من قبل الروس الأشرار، فذاكرة اللبناني والعربي المهتم بالشأن اللبناني لم تنس بعد أن أسرائيل هاجمت لبنان واحتلت لبعض الوقت عاصمته بيروت، واستمرت لثمانية عشر عاما، من عام 1982 حتى عام 2000، تحتل الجنوب اللبناني، وتعتبره حزاما أمنيا لها، دون أن يتخذ ضدها أي أجراء عقابي، بل استمرت أمريكا في تقديم المساعدات السنوية التي تتجاوز الثلاث مليارات دولار في كل عام، ووقف الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن الدولي حائلا دون أي قرار بأدانه المذابح التي نفدتها قواتها أو أذرعها ضد اللبنانيين وضد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان مثل مذبحتي صبرا وشاتيلا، ومذبحتي قانا. هذا دون التطرق الى المأساة الفلسطينية المتواصلة منذ مايقرب الثمانين عاما، ودعم أمريكا والأطراف المتنفذه في نظامها العالمي للطرف المتسبب بتلك المأساة.
وتجارب مجتمعات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية مع النظام العالمي، والعالم الحر بزعامة أمريكا، لا تختلف كثيرا عن تجارب اللبناني والفلسطيني والعربي، فقد كانت أجيال من تلك المجتمعات شهودا على حروب ومجازر وتقويض حكومات، وتدمير دول بأكملها من جانب الغرب، الذي يتغنى بالشرعية والقانون الدولي.
فهل دعم الأوربيين لنظام كييف، أو دعم الأسيويين والأفارقة واللاتين أمريكان لبوتين يقوم على الأسس موضوعية تتفق مع مصالح الشعوب في كلا الجبهتين؟
هل نظام زيلينسكي نظام ديمقراطي، ينهض في مواجهته للغزو الروسي، بدور الدرع الحامي لبلدان الأتحادي الأوربي ولديمقراطيات (( العالم الحر )) من شر (( نظام بوتين الإستبدادي))؟
هل السعي الى (( تحقيق العداله على صعيد العلاقات الدولية )) هو ما حمل بوتين على إلقاء روسيا في أتون الصراع في أوكرانيا. هل (( العدالة )) هي هاجس بوتين الذي قاده الى المخاطرة بخوض غمار مواجهة قد تفضي بالعالم إلى فناء نووي؟

سنكون على درجة مخجلة من السذاجة، لو أننا أخذنا سردية بوتين وضربه على أوتار(( العدالة الدولية )) على محمل الجد. فنظام بوتين نظام استبدادي بلا جدال، تشكل على أساس خرق الدستور الروسي ذاته الذي يحدد البقاء في موقع الرئاسة لدورتين فقط، لكن بوتين احتال على الدستور، حين أتى بعد نهاية الفترتين بمساعده ديمتري ميدفيدف، ليكون رئيسا شكليا لروسيا، فيما ظل هو ممسكا بقيادها من خلال احتلاله لمنصب رئيس الوزراء، ليعود بعد ذلك الى الرئاسة من جديد، ويتمكن من تعديل الدستوري بما يمكنه من البقاء في السلطة حتى يمل منها. لكن لا ينبغي إنكار أنه خلال هذه السنوات المديدة، مكن روسيا من الوقوف على قدميها من جديد، روسيا التي أستلمها من سلفه بوريس يلتسن مزعزعة تتناهبها المافيات التي نمت في أحشاء النظام السوفييتي خلال فترة قيادة غورباتشوف، وتغولت بعد أن تفكك الاتحاد السوفييتي، وصارت تحكم البلاد وتنهب مواردها وتحولها ألى أموال في المصارف الغربية، وممتلكات في بلدان الغرب. روسيا هذه عادت على يد بوتين الى الوقوف على قدميها من جديد، وقفزت بعد الأنهيار المريع، إلى الموقع الحادي عشر في لائحة أقوى الأقتصاديات في العالم. هذا بعد أن تمكن من معالجة التمردات في بعض أقاليم الاتحاد الروسي ـ التمرد التشيتشاني على سبيل المثال، وأعاد اليهأ أبخازيا التي كانت قد ضمت الى جورجيا، كما أعاد الى السيادة الروسية شبه جزيرة القرم، التي ضمت على عهد الأوكراني نيكيتا خروتشوف الى أوكرانيا.
هذه النجاحات رافقها تحسن ملحوظ في مستوى حياة المواطنين الروس الأقتصادي، أمر ساعد بوتين على التغلب على الأنتقادات التي توجه له على صعيد الموقف من الديمقراطية والحقوق والحريات الفردية، سواء في مجال التعامل مع المعارضين، الذين سجن بعضهم، واغتيل بعضهم الآخر في ظروف غامضة، أو في مجال التعامل مع المثلييين، من منطلق القيم المسيحية الآرثوذوكسية التقليدية الصارمة.
بوتين المفتون بفكرة استعادة (( عظمة روسيا )) التي هو قيصرها، لا يهمه من قريب أو بعيد أمر (( العدالة الدولية ))، هو فقط يريد لروسيا أن تكون قطبا دوليا يتمكن من منافسة أمريكا من موقع الندية، وهذا ما لا تسمح به واشنطن، خاصة بعد مزاحمة روسيا لها في سوق صناعة وتجارة الأسلحة المتطورة، ونجاحها في استمالة بعض زبائن واشنطن الذين تعاملت معهم بغطرستها المعهودة. وفي مجرى الحرب تكشف أكثر وأكثر الوجه القوماني لنظام بوتين، وما يضمر من توجهات توسعية، إذ صار هو وأعلامه يتحدثان عن استعادة روسيا التأريخية، وصار يمزج النزعة القومية بالنزعة الدينية، بالحديث عن قيم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. وبهذه الخلفية تصبح الأحاديث الجميلة المتعلقة بالـ (( العدالة الدولية أو العالمية )) مجرد شعارات للاستهلاك الخارجي، هدفها استمالة المجتمعات والناس الذين عانوا طويلا من سياسات الغطرسة والأملاءات والأبتزاز والعدوان التي لم يتتخل عنها يوما سادة البيت الأبيض، وحلفائهم من ورثة الإمبراطوريات الكولانيالية القديمة في أوربا.
والآن، ماذا عن كييف وداعميها؟ ماذا عن دعاوى زيلينسكي عن وقوفه (( مقاتلا باسلا )) في وجه الأستبداد الروسي، (( دفاعا عن حرية الأوربيين وديمفراطياتهم ))؟
هنا لابد من التذكير بأن زيلينسكي كان على وشك التسليم بجميع شروط روسيا حين كانت قواتها تحاصره في كييف، وتقدم بمقترحات رأى المفاوضون الروس، من موقع القوة، أنها تشكل أساسا صالحا للسلام أي (( للإستسلام )) إذا فضلنا وصف الوثيقة المقترحة بطريقة غير دبلوماسية، أمر أثار غضب واشنطن، التي أوفدت على وجه السرعة رئيس الحكومة البريطانية السابق بوريس جونسون الى كييف حاملا تحذيراتها ووعودها التي اقنعت زيلينيسكي بالتخلي عن مشروع اتفاق السلام.
هدا عن البسالة، ماذا عن ديمقراطية زيلينسكي ونظامه؟
زيلينسكي في الحقيقة لم يؤسس نظاما، أنما هو ورث نظاما أسسه انقلاب الميدان، عام 2014 الذي قاده بدعم من جهات غربية عديدة، تحالف منظمات يمينية متطرفة أبرزها منطمة سفوبودا، التي تتخذ من الزعيم النازي الأوكراني بانديرا رمزا لها، وهو الذي تعاون مع هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، وارتكبت الجماعات التي كان يقودها مجازر، راح ضحية لها عشرات الآف البشر. ذلك الأنقلاب الذي جر أوكرانيا الى حرب أهلية كان طرفاها النظام الجديد الذي تسبب بها، وسكان الأقاليم الشرقية ذات الأغلبية من المتحدثين باللغة الروسية. وشكل المتمردون على سلطة كييف في تلك الأقاليم، كيانين إنفصاليين، هما دانتسك ولوغانسك، وكذلك فعل سكان شبه جزيرة القرم، الذين أجروا لاحقا استفتاءا أفضى الى تقديم طلب بالإنضمام الى روسيا الاتحادية.
الحرب الأهلية وتمردات سكان الأقاليم ذات الأغلبية الروسية، وتوجهاتهم الأنفصالية، أججت مشاعر التعصب القومي، وخلقت في كييف بيئة خصبة للكراهية وتجذر الميول النازية، وعوملت المنظمات المناهضة للنازية باعتبارها كيانات عميلة لروسيا، هنا برز الممثل الكوميدي فلودومير زيلينسكي، الذي قام ببطولة مسلسل نقدي يفضح الفساد المستشري في جهاز الدولة وثقافة الفساد في المجتمع، دخل عالم السياسة وطرح نفسه كبديل سياسي مناهض للتعصب وكراهية الروس، وفاز في الانتخابات. غير أن جهاز الدولة الذي وجه له زيلينسكي سهام النقد في مسلسله التلفزيوني، قام بابتلاعه، وجعله يؤيد تعديلا دستوريا ينص على أن انتماء أوكرانيا الى حلف الناتو هدف من أهداف البلاد، أمر رأت فيه موسكو توجها للأستعانة بالحلف لأنتزاع شبه جزيرة القرم من الاتحاد الروسي، وتحطيم الكيانين الروسيين الأنفصاليين في شرق أوكرانيا. وفي مجرى ذلك اطلق زيلينسكي تصريحات عبر فيها عن الأسف لتخلي أوكرانيا عن حصتها من القوة النووية السوفييتية، وفق اتفاقية الأستقلال عن الاتحاد، كون ذلك كان سببا في عدم قدرتها على مواجهة الأنقسام، وأن الأنتماء الى الناتو جدير بتصحيح الوضع. وبدأ نظام زيلينسكي بتحشيد قواته المدربة جيدا على يد خبراء من حلف الناتو في الأجزاء التي لم يفقد السيطرة عليها من منطقتي دانتسك ولوغانسك.
بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في أواخر شباط ـ فبراير من هذا العام، شن نظام زيلينسكي حملة شرسة ضد المعارضة الداخلية، وجرم أحد عشر منظمة وحزبا بعضها ممثل في البرلمان الأوكراني، ضاربا عرض الحائط دعاواه عن الديمقراطية والحريات.
هنا يمكن القول أن كلا السرديتين، الروسية والأوكرانية المدعومة ناتويا، للصراع الجاري في أوكرانيا، تحملان قدرا من الزيف، قدرأ من التعصب القومي والميول النازية من الجانب الأوكراني، وقدر من تطلعات القوة الكبرى للتوسع الأقليمي من خلال الحديث عن استعادة روسيا التأريخية، تطلعات مدعومة باستثارة المشاعر القومية والدينية على الجانب الروسي.
وجاءت تطورات الوضع في الأزمة الأوكرانية متوافقة مع مخططات واشنطن لاستنزاف روسيا عسكريا وأقتصاديا، بما ينمي عناصر تفتت الاتحاد الروسي والتخلص من قوة دولية منافسة، وفي ذات الوقت أستنزاف الحلفاء الأوربيين في هذا الصراع، لكبح نموهم الأقتصادي ونفوذهم السياسي، وتأبيد حاجتهم الى أمريكا والأعتماد عليها. وكلا الأمرين يسهلان من عملية أخرى ذات أهمية حاسمة، وهي التفرغ لمواجهة ما تصفه الدوائر المتنفذة في أمريكا بالخطر الإستراتيجي الصيني.
الوضع أذن لا يتعلق بادعاءات الدفاع عن العالم الحر التي يلوكها زيلينسكي بتلقين من البيت الأبيض، ولا بالمعركة المفترضة لعالم أكثر عدلا التي يروج لها بوتين. ومع ذلك فلن تكون النتيجة واحدة في حال أنتصر أيهما على الآخر. فانتصار أمريكا على روسيا بواسطة أوكرانيا، سينهي بشكل حاسم وربما نهائي أية أمكانية لعالم يسوده العدل في العلاقات الدولية، ويزيد من غطرسة أسياد واشنطن واحتقارهم لكل قواعد القانون الدولي الذي يزعمون الدفاع عنه. أما الأنتصار الروسي، ضعيف الاحتمال، فسيعيد العالم الى عصر توافقات الأقطاب وتقاسم المزايا والنفوذ، ووكذلك تناحراتها المحسوبة النتائج، ليس على أراضيها، وأنما على أراضي أطراف أخرى، كما هو الحال في الصراع الجاري حاليا على الأرض الأوكرانية، وإن ليس بتورط كامل لأطراف متعددة مثلما يجري حاليا.

وربما يمنح هذا بعض البلدان إمكانية المناورة من خلال التحرك بين المحاور القطبية المختلفة، بما يؤمن لها شيء من الحماية وتحقيق المصالح، ويؤمن للأقطاب المتنافسة فرصة مد النفوذ وما يوفره من مصالح ومزايا.