قبل الشروع في قراءة "شارع الزعيم"، آخر عمل روائي للكاتب عباس لطيف الصادر في نهايات 2017 ، تبادر إلى ذهني أنني سأقرأ نصاً سردياً في المكان البغدادي، في شارع يزخر بالدلالات الرمزية التاريخية منها والسياسية والاجتماعية والجمالية، ولما يمتلكه الروائي عباس لطيف من وعي وتأمل في خصائص السرد ورصد التحولات الفنية فيه، غير ان عتبة العنوان المتصدرة للنص لم تأخذنا نحو إدراك القيم التعبيرية في مضمونه، ليجسد أعلى اقتصاد لغوي ممكن، وفرض أعلى فعالية تلقٍ ممكنة.
إن ارتباط الرواية بشارع الزعيم يضعها موضع تساؤل عن موقعها بين النصوص السردية المكازمانية، فهي في حدود عناصرها الحكائية تحدد هويتها بالانتماء إلى الواقع الاجتماعي والسياسي، خلاف ما أشار إليه الكاتب في غلاف الرواية الأخير على أن الشارع يتحول إلى بطل محوري فيها. فراح الروائي منذ البدايات الأولى للرواية يتابع ثلاثة أصدقاء يعيشون كالمجانين في زمن يعود لأواسط الثمانينيات "مرت خمس سنوات على الحرب"، يلتقون في مرسم سعيد، تطاردهم لعنات الحرب، وأخبار القتلى والأسرى والمعاقين، يتبادلون الهموم في زمن خالٍ من المسرّات، يجد كل منهم وسيلته للهروب من الواقع، جلال "الراوي"، المدرس، الكاتب الصحفي، بائع الكتب، حسن مكرر يحمل هوية طالب جامعي مزوّرة، سعيد كذلك، مسرّح من الجيش لأسباب صحية، لكن بوثائق مزوّرة.
جلال المتزوج من نوال التي يعاني معها من طلاق روحي ومعرفي، فجأة وبدون مقدمات لنمو تدريجي لعلاقة حب، يجد في أحلام، زميلته في المدرسة صورة المرأة التي عاشت بمخيلته، فيصفها أنها امرأة مكتظة بالعذوبة، منحته طاقة للخلاص من عناء الحياة، عناء الزوجة والأولاد سامر واحتفال، أحلام تسكن في دار أهلها الكائن في شارع الزعيم، وكان والدها من محبي عبد الكريم قاسم، هنا البؤرة الأكثر أهمية في العمل الفني التي ينبغي أن يتحول المكان فيها إلى عنصر حكائي بدلالاته الرمزية والواقعية، غير ان الشارع لم يحمل وجوده المؤثر في سرد الأحداث ،والتفاعل بين الخطين السياسي والعاطفي ظل هامشياً، والصلة بينهما لم تصل مرحلة الانصهار العميق.
كان مرسم سعيد الأهم في صناعة الحدث، وصياغة الأسئلة والتأملات، وتقاسم المسرّات والأحزان، والروائي بتقديري، أدرك إن في اختيار "المرسم" عنوانا لروايته مثلا، لا يترك وقعاً مؤثراً لدى القارئ، فاختار شارع الزعيم، ليقدّم من خلاله صورة لتاريخ العراق الحديث، بدءا من تموز 1958، وما قبلها بقليل، وانقلاب شباط 1963، رغم ما شاب بعض الأحداث من التباس، فالضابط عبد الكريم الجدّة لم يكن هو الشهيد الوحيد المقاوم من مناصري الزعيم، وبيان رقم "13" خصّ الشيوعيين تحديداً، لا اليساريين عامة. وهي هنات لم تحرف الرواية عن مساراتها العامّة، إذ اتسع فضاؤها لأكثر من صوت من أصوات شخوصها، وتفاوتت مستويات السرد، تفاوت الفئات الاجتماعية التي تنتمي اليها هذه الشخصيات، فيشفّ موقع الراوي عن موقف يفسح مجالاً لتعدد زوايا النظر من الحكاية، وتغتني وتتلون بألوان الحياة، وتستقل بسلوكها، وتطرح الرواية أسئلة عديدة بنسيج حقيقي عن معنى حرق البنايات ونهب الآثار والممتلكات إثر احتلال العراق في 2003، وغياب الأغاني والمسارح، كل شيء تبدّل، إنه زمن الهرولة، وعصر المفخخات والموت المجاني، وطواحين الدم التي تسحق كل يوم أعداداً كبيرة من البشر، ولا يبدو ثمة أمل في الأفق، فالمدينة بغداد مدينة الحياة، تحولت إلى مدينة موت.
سليم شقيق أحلام يبيع بيت الأهل، ونهى زوجته تموت بمرض السرطان، سعيد يُجبر على إخلاء مرسمه ليتحول الى مطبعة لتزوير العملة، جلال وأحلام وأمها المقعدة يغادرون بغداد هرباً إلى الشام، تحت ضغط التهديد الذي وصلهم عبر رسالة محشوّة بإطلاقات رصاص، سرعان ما تعود العائلة إثر مقتل سامر نجل جلال بحادث سيارة مفخخة، ليكتشف الأب ان ابنه كان العقل المدبّر لرسالة التهديد، ثأراً لأمه نوال، وعمد الكاتب إلى مزج هذا الجانب المأساوي بمشهد أو بمشاهد أخرى تفيض غرابة وعجائبية، فأحمد نجل سعيد ينجو من حادث تفجير، يعود بعد شفائه إلى دائرته، فيصرّ الضابط على اعتماد التقارير التي تصنفه شهيدا، حسن الذي كان يفكر بالهروب وجد ذاته بزواج ناجح من أنهار صديقة أحلام، بعد لقاء خاطف معها في مرسم سعيد أثار غيض صديقه جلال وامتعاضه، دون أن يكشف لنا الروائي اسباب هذا الغيض.
استعار الروائي عباس لطيف لغته بعناية وشفافية، ترتقي أحياناً الى مستوى اللغة الشعرية، كشفت عن ذائقة جميلة في وصف الأماكن، وأجواء لقاءات العشاق. وحاول الكاتب ان يجعل البناء الفني متماسكا، يقدم الحكاية حدثا وراء حدث ، صورة بعد أخرى، ليصل بالقارئ الى ذروة الوصف الدرامي، ولو لجأ الروائي إلى أساليب السرد بتقنياته الحديثة، بأداء لا يضر بتماسك نسيج الرواية وتناسق بنيتها، لارتقى بتميزها فنيا، ونأى عن التقليد والنهايات السعيدة، فموت وعودة الأب وابنته احتفال الى عشّهم الأسري بأمان، أحدث قطيعة مع تعقد الواقع الاجتماعي والسياسي في الرواية.