سلطت هذه الرواية, للروائية العراقية أنعام كجه جي الضوء على جملة تداعيات, في مسار الاحداث السياسية وتطوراته وتبدلاته وتقلباته, من مراحل تاريخ العراق السياسي, خلال ثمانين عاماً, اي ان المتن الروائي, يحاول ان يعطي مسحا استقرائيا, على الواقع السياسي/ الاجتماعي, في منظومة القيم الاخلاقية. وكذلك في ابراز جوانب من جمالية الحب وعاطفته, الذي يبقى حياً ينبض بكل تفاعلاته في القلب والوجدان, مهما تقدم الزمن وتبدلت الظروف, وتقدم قطار العمر, فيبقى بؤرة روحية تعيش مع الذكريات, في احلى انغامها, فيبقى هاجس الحنين والشوق, يداعب الذاكرة, والنص الروائي يروي حياة ثلاث شخصيات, امرأتين عراقيتين, ورجل فلسطيني, من اهل الشتات والنكبة لعام 1948. ويتوغل السرد الروائي في غور الاحداث, في عدة اشكال واصناف واشكال تعبيرية, في غمار الكشف الحياتي, في المنظور الروائي ومساحة فضائه , في نواحي البحث التاريخي والوثائقي, او من خلال المذكرات الحياتية والصحافية, وبرعت لغة السرد في تقنياتها الفنية والتعبيرية. التي جمعت في وعاء واحد, الواقع والخيال الفني. وهذه السمة الاسلوبية في تعاطي النص الروائي, وكما في روايات المؤلفة السابقة "طشاري. الحفيدة الامريكية. سواقي القلوب". فهي براعة نتاج تجميع واقعية الاحداث التي حدثت فعلاً وحقيقة, وتعطيها صبغة من الوان الخيال الفني, في عينات شاهدة على الحدث, عاشت في خضم الاحداث, وتشعبت في مساراتها, وهذه الرواية "النبيذة" اضافت اليها ابداعا واقعيا وجوهريا, هو المقارنة, بين منظومة القيم الاخلاقية, التي كان يتحلى بها, النظام الملكي, ونظام صدام حسين. من خلال تجربة الشخصية, العينية والفعلية , التي كانت قريبة من رجال النظامين, في صورها الفوتوغرافية بدون رتوش وتجميل , وانما على حقيقتها على الواقع. وخرجت من صندوق الذاكرة, في صورها التعبيرية والفعلية, في عملية استرجاع الذاكرة في "فلاش باك", وسلطت الضوء الكاشف على شخوصها, التي خاضت تلك التجارب العينية. لذلك لابد من كشف استقرائي لأبرز شخوص الرواية الثلاث.
** تاج الملوك عبدالمجيد: في عمر التسعين عاماً. راقدة في المستشفى العسكري في باريس/ فرنسا. استيقظ شريط ذاكرتها, على المريض الراقد في الغيبوبة, في الغرفة المجاورة لها. ويهمس لها الشرطي بأنه "بن بله" الرئيس الجزائري السابق, ناهز على التسعين عاماً, يتعالج في مستشفى عسكري عند مستعمريه. وقد منعها الشرطي من مقابلته, لأنه في غيبوبة, لذلك تستفز اعصابها, بأنها هي التي انقذته من محاولة اغتيال, عندما كان شاباً , خلال تواجده في مصر عبدالناصر, ويعود بها شريط الذاكرة, الى العهد الملكي في العراق, حين كانت شابة في العشرين من عمرها, ومجيئها الى بغداد من ايران , وتمتهن مهنة الصحافة, وتكفل بدعمها النظام الملكي, برعاية ابوية من الباشا "نوري السعيد" حتى اصبحت مدللته, في اصدار مجلة "الرحاب" برئاستها, وتتلقى الدعم المادي والمعنوي من البلاط الملكي, وحتى المقالات يعطيها "نوري السعيد" رؤوس الاقلام, لتكون منها مقالات سياسية تنشرها في مجلتها, وكانت تحظى بكامل الحرية, تعمل وتنشط في مجالات مختلفة, وتدخل الحفلات العامة والخاصة, ومقابلة كبار الدولة والرؤساء الزائرين, وكانت نشطة في تحركاتها في الانشطة الادبية والفنية, توثقت علاقتها مع الادباء والسياسيين البارزين, فكانت تدخل على "نوري السعيد" في اي وقت كان دون موعد. وتنقل له نشاطات وحركات الشارع السياسي. وكذلك اخبار التظاهرات والاحتجاجات والاضرابات, التي عمت الشارع العراقي, بالهيجان والغضب الشعبي الواسع. ضد ابرام معاهدة "بورتسموث". التي حولت البلاد الى غليان عارم. حتى الباشا " نوري السعيد " وجد نفسه, غارقا حتى رأسه بالهموم السياسية المستجدة, في محاولات تفادي تدهور الوضع العام نحو الاسوأ, لان الشارع اصبح ملك المتظاهرين والمحتجين, وملك للمعارضة السياسية واحزابها. ودخلت على الباشا علامات التذمر تلوح على ملامحه:
- ايش جابك بهذا الوقت؟
- جناب الباشا. اريد اعرف شكو ماكو؟
- وشوية سرسرية مهيجين البلد.
لكن الاوضاع العامة تسير الى الاسوأ, بتصاعد المد الشعبي المعارض لاتفاقية "بورتسموث", وخوفاً من انفلات الوضع عن السيطرة في عموم العراق, وان تنقلب الى صالح المعارضة السياسية والشيوعيين, التي أوصلت التظاهرات الى قمة التحدي في وثبة كانون عام 1948, وسقوط شهداء على الجسر, لم يبق طريق للحكومة في انقاذ نفسها من السقوط المحتم , سوى ان تستجيب الى مطالب الشعب. في إلغاء معاهدة "بورتسموث" واعفاء "صالح جبر" من رئاسة الوزراء. وتكليف "محمد الصدر" في تأليف الوزارة, واطلاق سراح الموقوفين. وحتى النظام الملكي الذي زج بالشيوعيين في السجون , وبقادتهم. وجد نفسه مضطراً ان يتباحث معهم في شخصية نوري السعيد. ان يقابل سكرتير الحزب الشيوعي "فهد" محاولاً اقناعه بالمساومة, ان يأخذ المال والمناصب , في سبيل تهدئة غليان الشارع. وبتنفيذ كل المطالب التي يرغب في تنفيذها.
- أترك المبدأ الهدام وخذ ما تريد....
- أريد توزيعاً عادلاً لثروات البلد على العراقيين
وتنضم "تاج الملوك عبدالمجيد" الى صفوف الشعب والمعارضة, وتشترك في النشاطات الجماهيرية في الاحتجاجات والاضرابات, وتنشر المقالات السياسية لصالح المعارضة السياسية, وتشترك مع الشيوعيين في نشاطاتهم الشعبية اليومية. وتتابع يوميات الوثبة لتنشرها في الجريدة, بسقوط الشهداء ونشر صورهم. وتنشر جلسات محاكمة قادة الحزب الشيوعي, واقوال دفاعهم في المحكمة, ومحضر جلسات اقوال "فهد" في المحكمة. حتى الهبت الجماهير في الحماس, في تتبع جلست المحاكمة واقوال الدفاع, في نشر الجلسات اليومية, مما زاد سعر الجريدة من عشرة فلوس, الى مئتين وخمسين, وتباع في السوق السوداء. مما احرج الحكومة ووضعها في ورطة عويصة. وبعد الاحداث السياسية الدراماتيكية, اضطرت الى السفر نحو ايران, ثم الباكستان, واشتغلت في اذاعة كراتشي الناطقة بالعربي. حتى اعلنت في الاذاعة, خبر اعدام سكرتير الحزب الشيوعي العراقي "فهد". تعرفت على "منصور البادي" فلسطيني من اهل الشتات والنكبة 1948, وارتبطت معه في علاقة حب عاطفية, سكنت في سويداء القلب, ورغم اغترابه في عديد من بلدان العالم, لكن حرارة الحب ظلت متوهجة في جوانحه وقلبه, لم تنطفئ, وظلت حرارتها تنعش الذاكرة, مهما تقدم الزمان وتبدلت الظروف. فالحب الحي يبقى حياً لا يموت , يعيش مع الحياة والعمر.
بعد ذلك تحط حقيبة "تاج الملوك عبدالمجيد" في باريس, وتتزوج من ضابط فرنسي "سيريل شامبيون" واصبح اسمها "مدام شامبيون". وتجند في مهمة اغتيال "بن بله" خلال تواجده في مصر, وكانت مسؤولة في اعطاء الاشارة للهدف المطلوب للاغتيال, بالاشارة المتفق عليها, وترصد مجيء "بن بله" وعرفته حق اليقين, وهو يقترب منها , لكنها لم تعطِ اشارة الاغتيال. فقد تزاحمت الافكار في رأسها. فقد تذكرت شهداء الوثبة الذين سقطوا على الجسر.
** وديان الملاح: عاشت في بغداد, وهي صغيرة برعت بموهبة الموسيقى وتعلمها, لذلك سجلت وهي طفلة صغيرة, في مدرسة الموسيقى والباليه, وتدربت على يد اساتذة محترفين, وبرزت في عزف الكمان, رغم انها ولدت ضعيفة السمع, لكنها كانت منشدة الى العزف الموسيقي, وعاشت جحيم الحصار الدولي الخانق, في عهد صدام حسين, والظروف الصعبة, في تدهور المستوى المعيشي للحياة, وكذلك حالة الخوف والقلق من سطوة النظام الطاغي والمستبد, وحالة التدهور في جميع مناحي الحياة, حتى اصبحت قيمة الدينار العراقي, لا تساوي ورق لف السكائر "المزبن" صار دينار العراقيين, ورقاً لا يصلح للف السكائر. تتسلم تقاعد أبي, الذي كان يسد بعض حاجتها, ثم ما عاد يشتري به كيس بصل".
ابن الشيخ "وهي اشارة تعني عداي صدام حسين" في مجون حفلاته الماجنة بالبذخ والاسراف المجنون. مرة دعاها الى الاشتراك في حفلات التنكر, اي كل مدعو يرتدي عاهة, في حفل التنكري الذي يقيمه ابن الشيخ , فاذا به يقف في وجهها مزمجراً كالوحش الضاري لافتراس ضحيته. ويقول لها:
- حفل تنكري للمعاقين , كل مدعو يرتدي عاهة.
- انا متنكرة
- هل تأخذيني على قدر عقلي؟
- عفواً استاذ. هذا التنكر الذي خطر في بالي.
- لا ارى عاهتكِ
- طرشاء. الصمم لا يبدو على صاحبه
يقهقه مثل ثعلب ماكر
- طرشاء! هل سمعتم؟ انها متنكرة في زي طرشاء, لماذا توقفتم عن الرقص؟ ارقصوا كلكم وارفعوا الموسيقى/ صاحبتي طرشاء ولن تتضايق".
ويمارس بحقها ابشع اساليب التعذيب, ثم يثقب طلبتي اذانيها, لكي تصاب بالطرش الكلي "كان عليَّ أن اتأقلم مع محنتي. ارتديها ثوباً أدس به كياني حتى لو لم يكن على مقاسي, لا تأتي العاهات على مقاس أحد, لكن مصاحبتها ترفع عنها مع الايام حرج الاختلاف عن الاخرين, هكذا تعودت وضعي الجديد. قدري وانا محكومة به". وكانت مخطوبة الى "يوسف" من جماعة ابن الشيخ وساعده الايمن, لكن رغم مركزه ونفوذه المهيوب, لم يستطع انقاذ خطيبته وحبيبته التي يروم الزواج منها, وهي التي انتظرته, خمس سنوات, حتى يخطبها, وما زالت تنتظر اليوم الموعود للزواج, لم يسعفها في محنتها, ولم ينقذ شرفها من الاغتصاب, حين استدعاها ابن الشيخ الى قصره, لكي تنغرز مخالبه في اغتصاب عذريتها, ولا حيلة لخطيبها, سوى النحيب, وهي تسير الى قدرها المشؤوم, ويوم النحس المرصود لها, فبدلاً من انتظار فرحة الزواج, تقاد الى الاغتصاب وانتهاك عذريتها, كأنها محكوم عليها بالاعدام, وتسير نحو حبل المقصلة. هكذا اثبت خطيبها العجز وتركها كالنعجة تنقاد الى المسلخ , فقد اكتملت ادوات الجريمة بالاغتصاب, ثم رماها في الشارع, تلوك العار والهزيمة, وتبكي بدموع حارقة على جريمة الاغتصاب الوحشية "احمل عذريتي وافكر في اخرج بها الى الشارع, اسير على ارصفة مدينة منتهكة, كان الحصار الخارجي يخنقنا, والضغط الداخلي يزهق الارواح. أقرأ بكل وجه أمر به, هل كسروا كرامته. أم مازال على قائمة الانتظار؟ ولم يعد للوطن قيمة لحفظ كرامة المواطن. وانما اصبح وطن ينتهك الكرامة والاعراض والشرف. لإشباع عربدة المخبول ابن الشيخ "عدي" الذي لا يقيم وزناً لكرامة وشرف المواطن, في اشباع هوسه جنونه الشاذ, ففكرت بالهروب من الوطن الذي اغتصب عذريتها بوحشية سادية, وسنحت لها الفرصة, ان تسجل اسمها ضمن بعثة الى فرنسا, في تقوية اللغة الفرنسية بالإشارة للمصابين بالطرش, ونجحت بذلك, لتترك "عراق صدام حسين". بوجهه المرعب. واثناء تواجدها في فرنسا, راجعت المستشفيات للعلاج, و اصلاح العطب الكلي بالصمم. وهي تشاهد اخبار العراق بعد سقوط نظام صدام حسين. شاهدت ابن الشيخ " عدي" مقتولاً ممدداً على مشرحة الطب العدلي. حتى انهالت عليها ذكريات تلك الايام المرعبة والجحيم الذي عاشته, وذاقت الهوان وحطم حياتها "لم أكره ذلك الوحش, لأنني بسببه هجرت البلد. بلدي واهلي ورجلي الذي أحببت, كرهته لانه أعطب سمعتي وسلبني موسيقاي, مهنتي توأمي, منذ وعيت على الدنيا. كان في مقدوره ان يطلق النار بين عيني , يشنقني على مدخل المسرح الوطني. يسحلني بين ساحة التحرير وباب المعظم, لكن الموت راحة, وهو اراد ان يتسلى بتعذيبي, ويقهقه مع صحبه. يراني ميتة تسير على قدمين".

عرض مقالات: