قال صديقي سعد هاني، المغترب في السويد  بعد حديث طويل جمعني به، أنه يريد الرجوع الى البلد لأنه شبع من قسوة الغربة، "طكت روحي"، وهذا ما لا يطيقه من شوق  ومشاعر ثقيلة، متمنيا قبرا في الوطن يحتويه ليريح عنه ثقل الحنين بعد أن وصل به الشوق الى خريفين.

 سعد هاني، صديق طفولة من أيام المدرسة الابتدائية، يوم كانت تجمعنا أواصر محبة وعلاقة تنسجم في تفكير مشترك يقترب من حب المدرسة واللعب في المحلة أو الذهاب الى السوق او السينما، كان الفقر هو العامل المشترك بين التلاميذ، لكن سعد من عائلة ميسورة تعمل في صياغة الذهب، لذلك يختلف بالملبس ونوع الجاكيت الذي يلبسه، لكن لم نشعر بذلك الفرق نتيجة طبيعية الحياة والدراسة آنذاك حيث لم تكن فيها دروس خصوصة وتمايز بين التلاميذ غير التنافس في المواد الدراسية، وإخلاص وتفاني المعلم بالمساواة واحترام العمل وشرف المهنة.

 أثار حديث سعد هاني عدة أسئلة. هل القبر هو الأمنية الأخيرة لرجل ذاق الويلات في بلد فر هاربا منه، لكي يتمنى ان يدفن فيه؟ هل يعقل ان يكون القبر دلالة في ذهن مغترب كابد الكثير من أجل الحصول على حريته؟ هل يتحول الحلم الى موت؟ وهل نسي ما عانى وقاسى هو وعائلته من أجل الفرار بجلده لكي لا يقتل ويرمى في المزابل؟ ربما تسع مخيلة سعد للرد عن هذه الأسئلة في أجوبة تؤطر بالحنين، لكنها الأجوبة غير كافية لمعنى ان يهرب أو يطرد المرء من وطنه، أن الوطن هو مشاعر حب تتجسد في صورة عاشق، وهو مستودع ذكريات لا تنضب في زحمة الخرائط، وهو المكان المألوف في باب الحنين للطفولة والصبا والعشق، وجملة شواهد ثابتة في الألفة والانسجام التي تبعث الفرح  والبهجة في أيجاد دهشة تتجانس بروح المودة والتعاون والطمأنينة.

سعد هاني يتصحف كل يوم أخبار الوطن، ويخبرني عن كل شاردة وواردة وعن كل حدث يمر في الصفحات والشاشات. صار يسأل عن شكل الحي الذي نعيش فيه عن السوق عن أفران الخبز والصمون، عن البقالين، عن الشوارع والحدائق.

كنت أصف له كل شئ، أصف اختلاف ما حدث من اندثار الأماكن والمباني الآيلة للسقوط، عن تبدل الناس، عن شيخوخة المعلمين عن تقاعد الأصدقاء، وليس في نيتي أن أقبح ما أرى، لكنها الحقيقة في وصف أمكنة عمرها أكثر من ثلاثين سنة مرتْ في بلاد يجري التخريب فيها على قدم وساق بعد ان غاب البناء والتعمير. من حصار جائر في بداية التسعينيات الى حروب دائمة تغذي الحياة يوميا بالقتلى.

 سعد هاني لم يذهب في سياحة، إنما هرب من موت، وإذا نجا سابقا منه، فانه هذه المرة وفي زمن الكره والعداء لا يفلت، وهو الذي ينتمي الى طائفة لا تلائم المليشيات، ولا يستطيع أن يشارك في مستقبل بلاده الذي يعتبر من سكانها الأصليين. وهذه الأخيرة تعتبر من الأجوبة الكامنة في حنينه لبلاده.

كان يسألني عن المعلمين وعن تلاميذ المدرسة التي كنا فيها معا، كنت لا أذكر الأموات، أذكر الأحياء الذين صاروا عرضة للزمن وقد تبدل الكثيرون ولبسوا ما يمليه عليهم واقع الحال بارتداء الملابس الشعبية، وملابس زيف التقوى، وأضحك على النهايات البائسة، لأنهم لم يتعلموا من التجارب المريرة، او استكانوا في شدة الحروب المتعاقبة بعد ان كثر السحرة والمشعوذون والطائفيون والسفلة والمجرمون. قلت: لم يتعلموا، لأن المرارات المتعاقبة لم تفسح المجال وذلك لبطش كل الأنظمة وأجهزتها السرية والعلنية بالطرق على رؤوس الناس باستمرار وديمومة لا تنتهي بالتجويع، ولا بالسجون بل في تجسيد الخوف الدائم والقلق من المجهول المرعب.

أعرف سعد هاني جيدا أنه إنسان مسالم ولا يحب الحروب ويؤمن بالحرية والسلام لكن هذا لا يكفي في المحافظة على نفسه وعائلته بين وحوش بشرية تحتقر كل الطوائف والنحل والملل.  ويذكر جيدا لحظات الفتك بزملائه وأقربائه وزجهم في السجون على اسباب واهية اولها تهمة الانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي، وهو يتذكر جيدا معلمنا الشهيد زكي طرفي الذي زج به في الحبس سبع سنوات وبقيت عائلته وحيدة تكابد صمتها لوحدها خشية أن تبوح لأحد، زكي طرفي الذي علم التلاميذ معنى ان يكون الإنسان حراً في وطنه، وأهمية العلم والثقافة في تطور الحياة.

 حكيت لسعد عن كل الأصدقاء الذين فقدوا في حرب السنوات الثمانية وقبلها الذين غيبوا في السجون والمعتقلات، وبعدها من قتل ولم يعرف سبب قلته، بل لم يعرف من هو القاتل؟ لا أعرف أي زمن نعيش بعد ان تشابهت الأزمنة وتقادمت الأمكنة ونحن نركض صوب أمل لا نرى ما فيه. ولا ننسى معاناة الآباء في كيفية الحفاظ على عوائلهم في تأمين لقمة العيش بشرف وسلام.

ذكرني بالمكتبات وهو يدري أنها لفظت أول رسام تشكيلي في المدينة بصاروخ همجي أنه الفنان الشهيد أمير الشيخ، قلت: لقد تحولت المكتبة الى بناية ليس لها أي علاقة بالكتب، وسرقت كل الكتب والمعاجم والقواميس والمخطوطات، ومات أمين المكتبة، وشاخت الموظفات، ولم يبق أي أثر سوى ذكريات سرعان ما تنسى على أيد مخربين ومغامرين يفتكون بالأثر الجميل الى قبح وتراجع وتقهقر، كأنها وليمة لشيطان جائع. بل كل المدينة شاختْ وأصابها تصلب الشوارع  والدرابين ولا تزال تواصل اندثارها بفزع في تآكل الطابوق القديم، ولا بديل عنه بمستورد مغشوش.

هل تذكر الشطوط في تفرعات نهر دجلة من جهة نهري المشرح والكحلاء لقد يبست شفتاها، ولم تعد  تفرغ حمولات الحنطة والشعير والتمر والخضروات قرب صناع الزوارق النهرية؟ هل تذكر رائحة القير؟ هل تتذكر جابش القيار؟ هل تذكر الحرفيون  الذين يصنعون المناجل والمساحي والفال والمرواح أولئك أصحاب اللحى الطويلة البيضاء؟ هل تذكر الصاغة الذين يتفننون  بهندسة القلائد والأساور والتراجي من أجل أناقة النساء السومريات؟ بالتأكيد تتذكر ذلك جيداً، لكي تعاود السؤال بأكثر جدوى على جواب قد يفلت مني أوله، لكنك تعيد السؤال مرة أخرى على سهو مقصود يخشى ان تفر منه نقطة تشبه دمعة هاربة في ليل طويل.

 السؤال هنا هل ثمة معنى للحنين في زمن القحط؟ ربما لا نعثر على بارقة في تشتت الأبدان والنفوس، لكن الفكرة تتقدم في الحنين نفسه طالما يوجد حافز للسؤال. صحيح أن الحسرة أليمة في رؤية المستقبل، لكن الأمل أن نبني ونضمد الجروح ونرش الملح على رائحة ما تبقى من قروح.

 أعرف أنك تحب الوطن، وتفكر أن ترجع اليه يوما ما، وحتى لو لم ترجع، فأن ما سمعه أبناؤك وأحفادك  منك  ومن صدق حنينك واشتياقك ولوعتك، فأنك بهذا قد زرعت بذرة ستنمو في حديقة الدار وتشق مزرعة أرض الحب. إذاً سيكون هناك معنى لسؤال الحنين، ومعنى للقبر أيضا، عندها سيكون هناك جواب للوطن، ولو بعد حين.