كنا صغاراً عندما صدرت فتوى تحريم الشيوعية، وكانت معرفة أغلبية الناس بالشيوعية وماذا تعني محدودة، وتقتصر على اقتران كلمة الشيوعية بالاتحاد السوفييتي، حيث مازالت الانتصارات التي حققها الجيش الأحمر على الفاشية في الحرب العالمية الثانية عالقة بالأذهان.

ورغم أن مدينتنا كانت قريبة من مركز الفتوى، إلا أن أحداً لم يتعرض للشيوعيين بسوء. وبعد مرور حوالي سنتين من صدور الفتوى، شاءت الظروف أن أتعرف على مجموعة من الكوادر الشيوعية التي استطاعت الإفلات من الإرهاب الأسود الذي انتشر في البلاد بعد انقلاب الردة في شباط 1963، والتي وجدت لها مأوى في ريف الفرات الأوسط، حيث بدأت من هناك محاولات إعادة تأسيس المنظمات الحزبية من جديد، في ظل ظروف قاسية، وخاصة الحملات اليومية التي كانت تشنها مفارز الحرس القومي على الناس خاصة في المناطق الريفية التي يشك بوجود شيوعيين فيها. ولكن، وعلى الرغم من الأذى والخسائر التي تعرض لها الفلاحون وعوائلهم والعادات الاجتماعية الريفية التي لا تسمح بوجود غرباء في بيوتهم لفترة طويلة والأحوال الاقتصادية السيئة، احتضن الفلاحون الشيوعيين ووفروا مأوى لهم.

لقد نجحت هذه المجوعة من الرفاق في نشر الأفكار الماركسية والحس الوطني بين الفلاحين وأبناء المدن القريبة، ولم تقف مشاعر التدين ولا الرواسب العشائرية/الإقطاعية حائلاً دون تأثر أبناء السادة والشيوخ وانتسابهم إلى الحزب لاحقاً، حيث أصبح العديد منهم كوادر شيوعية معروفة خلال الستينات والسبعينات، وكنت واحدا من هؤلاء الذين انتزعتهم الشيوعية من تلك البيئة.         

 لقد تساءلت كثيرا، كغيري من أصدقائي في ذلك الوقت، وحتى بعد أن أصبحت شيوعيا، عن أسباب نجاح هؤلاء الرفاق، وهل أن المناخ الثوري الذي ساهم نضال الحزب في خلقه بين الفلاحين كان كافياً لتفسير هذه الظاهرة؟ فتوصلت إلى قناعة راسخة تشير إلى الدور الهام الذي لعبته السمات الأخلاقية الثورية التي تحلى بها هؤلاء المناضلون والتي كان لها التأثير الإيجابي لنجاح مهمتهم في نشر الوعي الوطني/ الماركسي وجذب الناس إلى العمل في صفوف الحزب.

لقد أردت من هذه المقدمة أن أشير، وبشكل مكثف، إلى دور الرفيق فهد في ترسيخ القيم والأخلاق الثورية في صفوف الشيوعيين، وخاصة الكوادر منهم، حيث كان يعلق أهمية على هذا الجانب، نظراً لأن الناس في ذلك الوقت لم تكن تميز بين الشيوعية كفكر وبين الشيوعي كإنسان، ولهذا السبب بالذات، شدد على أهمية تحلي الرفاق بالأخلاق الوطنية الثورية. وكان للممارسة دور مؤثر في اقتداء رفاق “ فهد “ بسماته الأخلاقية العالية، حيث كان يقرن دعوته التربوية، بسلوكه اليومي مع الرفاق والمواطنين. كما إنه لم يكتف بذلك، بل ثبت الالتزام بالأخلاق الثورية الطيبة، كأحد التزامات العضوية، من خلال تثبيتها في النظام الداخلي الذي كتبه وأقره المؤتمر الأول للحزب عام 1945، حيث نصت المادة 51 على: أيها الرفيق: صن لقب(الرفيق) واسم الشيوعي من كل شائبة... تحل بالصفات الحميدة وكن على استعداد دائمي لنفع من هم حواليك.       

 وأود الإشارة هنا إلى أن الجهات المعادية للشيوعية، وخاصة في السلطة، آنذاك، قد أحست بالتأثير، المعنوي والمادي، التي تمثله السمات الأخلاقية العالية للشيوعيين، ودور الرفيق فهد في تكوين منظمة للثوريين العراقيين تسود فيها القيم والأخلاق الثورية. وهذا ما حدث بالواقع العملي حيث استطاع في فترة قصيرة، على الرغم من الصعوبات الكبيرة الاجتماعية والثقافية، في بناء حزب شيوعي، ذات فعالية سياسية وجماهيرية مؤثرة في بلد تسوده القيم العشائرية ويعاني من التخلف الثقافي والاجتماعي والاقتصادي.

إن نجاح الرفيق فهد في مهمته، كان أحد الأسباب الرئيسة التي جعلت السلطات الملكية تصر على تنفيذ حكم الإعدام به وبرفيقيه، حازم وصارم، على الرغم من ضعف المبررات والحملة العالمية المطالبة بعدم تنفيذ الحكم.

وقبل الحديث عن المبادئ التي ارتكز عليها مفهوم الرفيق فهد في معالجته لأهمية القيم الأخلاقية في حياة الحزب الداخلية ونشاط رفاقه بين الجماهير، لابد من الإشارة إلى أهم الصفات الأخلاقية الثورية التي أكد عليها والتي وردت في كتاباته المختلفة، وهي بالإيجاز:

  ـ حب الوطن والدفاع عن مصالحه.

  ـ ثبات الموقف الفكري من الماركسية.

  ـ العمل بتفان في سبيل قضايا الشعب والحزب.

  ـ الدفاع عن مبدأ التآخي بين الشعوب.   

  ـ الشرف والنزاهة الأخلاقية.

  ـ التواضع في الحياة الاجتماعية والشخصية.   

 وقد أولى الرفيق فهد اهتماماً خاصاً بتربية القائد الشيوعي من الناحية الأخلاقية مشيراً إلى جملة من المبادئ التي ينبغي أخذها بنظر الاعتبار بهذا الشأن:

 1 ـ إن النفوذ والهيبة بين الجماهير وقوة التأثير على الرأي العام تكتسب من خلال السمعة الأخلاقية الحسنة.

 2 ـ أن الإنسان الشيوعي والكادر، بشكل خاص، يخلق سمعته ونفوذه بين الناس، بواسطة سلوكه اليومي وأعماله التي تعبر عن سماته الشخصية وليس على مركزه الحزبي. لذلك كان يطالب الكوادر أن تكون مثالاُ يقتدى به من الناحية الأخلاقية والاجتماعية. وقد طبق ذلك على نفسه حيث كانت قوة تأثيره متأتية من التزامه الشخصي بالمعايير والقيم الأخلاقية التي كان يطالب رفاقه التقيد بها في علاقتهم بالجماهير.

 3 ـ التعامل المرن مع أخطاء الرفاق والناس بشكل عام، ويشير الذين عاصروه أنه كان لا يفتش عن أخطاء رفاقه، بل يبحث عن النواحي الإيجابية عندهم. وتعامله مع الخطأ الذي ارتكبه الرفيق، زكي بسيم، عندما قال بان الأسماء الواردة في الدفتر الذي عثر عليه أثناء الاعتقال، تعود إلى حزب التحرر الوطني، حيث قال له الرفيق فهد: ما كنت أحب أن تقول ذلك.

 4 ـ الميل إلى الإقناع في نقل معارفه وخبراته وقيمه الأخلاقية إلى الآخرين بدلاً من مطالبتهم بالخضوع وتنفيذ الأوامر.

 5 ـ أهمية احترام القيم والأعراف الاجتماعية السائدة والابتعاد عن النقد المتطرف لما هو سلبي منها.

 6 ـ إن الثقة التي تحتاجها ظروف العمل السري تعتمد، إضافة الى رسوخ الأيمان بعدالة القضية التي يناضل من أجلها الحزب، على السمعة الحسنة وتحلي العاملين في المنظمات السرية بالأخلاق الثورية الحميدة.

 7 ـ أن ظروف العمل السري تتطلب تعزيز مبدأ الرقابة الذاتية، وهذه لا تقوم إلا إذا توفرت لدى المناضلين الصفات الشخصية الحسنة.

وأخيرا تؤكد التجربة الراهنة للأحزاب والحركات السياسية العراقية، الحاجة  الماسة للالتزام بالمعايير والقيم الأخلاقية والإنسانية في العمل الحزبي والوظيفي بشكل عام، واختيار الكوادر التي تتولى المناصب الحكومية، بشكل خاص، حيث نلاحظ غياب الالتزام بالمعايير الأخلاقية والوطنية، لدى أغلبية الذين تسنموا الوظائف العامة في الدولة العراقية، بعد الاحتلال، وانتشرت بدلاً عنها مظاهر التملق والمسايرة والخضوع والتكيف مع المصلحة الذاتية، والولاءات الشخصية والدينية والطائفية والقومية والعشائرية والمناطقية، ونزعات الارتزاق والوصولية، ومظاهر الاستعلاء والتسلط والغطرسة، وميول الانتقام وتصفية الحسابات والابتعاد عن معايير الكفاءة والمعرفة الثقافية الوطنية.  

إن المثالب السابقة التي انتشرت بين كوادر الأحزاب العراقية التي تولت قيادة الدولة العراقية، بعد 2003، أدت إلى اضعاف هيبة وسمعة قيادات الأحزاب والحركات السياسية العراقية.

وكان من نتائج الابتعاد عن القيم الأخلاقية لدى كوادر الأحزاب والحركات السياسية العراقية التي ناضلت من أجل انهاء الاستبداد والدكتاتورية لعشرات السنين، وتتولى الآن المناصب الإدارية في الدولة العراقية بعد سقوط الدكتاتورية، انتشار مظاهر الفساد الإداري والمالي والاجتماعي في كافة مؤسسات الدولة العراقية الأمر الذي عطل أعادة بناء الدولة العراقية على أسس ديمقراطية على الرغم من مرور حوالي عقدين من السنين على انهاء الحكم الاستبدادي الدكتاتوري.

عرض مقالات: