منذ الرابع عشر من نيسان الجاري وشوارع العراق وساحاته تحولت إلى مواقع تسودها العشوائية في التنظيم ويعتريها مبدأ الغَلَبَة في الإستعمال لنشر لافتات الدعاية الإنتخابية وشعارات المرشحين ضمن قوائم انتخابية اتخذت اسماءً قد تشكل ملاحظة هامة للأسماء التي سادت الحملات الإنتخابية السابقة .

لقد دأب رواد الإسلام السياسي في الحملات الإنتخابية السابقة على ان ينشروا غسيل ما يسمونه ديناً يؤمنون به ،على شكل مقولات على لافتاتهم الإنتخابية ، لا يخلوا معظمها من الإشارات الى التهديد حيناً والوعيد حيناً آخر لأولئك الذين يتعاملون مع توجهات احزاب الإسلام السياسي سلباً او ايجاباً .وبطبيعة الحال بدأ يعلو هذه اللافتات بعض الإشارات، المبهمة مرة والواضحة مرة اخرى، الى الإنتماء الديني العام او الطائفي الخاص لمثل هذه الأحزاب والقوائم ومرشحيها .

لقد اختلف الأمر هذه المرة وانبثقت افكار جديدة ليس في ممارسة العملية الإنتخابية فقط ، بل وفي اختيار اسماء القوائم والتحالفات الإنتخابية التي لم يبرز فيها الإنتماء الديني الطائفي بذلك الشكل الواضح الذي رافق الحملات الإنتخابية الماضية . وقد يسأل الناس عن سر هذا التخلي عن الإنتماءت الدينية والمذهبية من قبل احزاب الإسلام السياسي التي تتقدم لخوض المعركة الإنتخابية للمرة الرابعة منذ سقوط دكتاتورية البعثفاشية المقيتة عام 2003 ولحد الآن.

قد تكون هناك جملة من الأسباب مجتمعة لتحدد السلوك الجديد لهذه الأحزاب التي قدمت كفاءات عالية المستوى في الكذب والدجل والإحتيال على الناس . وعلى هذا الأساس فإن مثل هذه الكفاءات الشيطانية لابد وان توظف على احسن شكل في هذه الحملة الإنتخابية التي تسودها معطيات جديدة تمر بها الحركات والأحزاب الإسلامية عامة ، واحزاب الإسلام السياسي العراقي على وجه الخصوص ، واهمها :

  • لم تعد التجارة بالدين تجارة رابحة لأحزاب وتجمعات لم يكن هدفها هدفاً دينياً بالأساس ، بل انها كانت تخطط وتعمل وتستعمل جميع الوسائل اللادينية بغية تحقيق هدفها المتمثل بالصعود السياسي وإقامة دولتها الدينية التي لم تستطع ان تقنع انسان القرن الحادي والعشرين بجدواها لا اقتصادياً ولا ثقافياً ولا مجتمعياً ولا حتى دينياً. وبالرغم من فشل هذه الأحزاب بتقديم نموذج واحد فقط لدولة دينية ناجحة على مر التاريخ ، فإنها لم تكُف عن الركض وراء هذا السراب الذي استعملت فيه مختلف وسائل التضليل والكذب ، بل وحتى العنف ،لمحاولة جعله هدفاً يمكن الوصول اليه. لقد اصبحت التجارة بالدين لتبَوِء قمة السياسة ، العوبة سمجة ادركها الشارع العراقي الذي لم يمنح هذه الأحزاب وكل تجمعاتها اللصوصية غير الألقاب والصفات التي تليق بها طارحاً بذلك الشعارات والأهازيج التي تشير الى ابتعادها عن الضمير الوطني وتوجهها نحو الفساد بكل اشكاله وصنوفه.
  • الصراع على الغنائم ونهب المال العام بمختلف الأساليب اللااخلاقية اوقع هذه الأحزاب في صراعات مميتة وتشظيات متناثرة تحاول كل منها ان تحافظ على مواقعها المتسلطة في العملية السياسية العراقية .وما تنبثق عنه الإنتخابات المقبلة قد يضع نهاية لسياساتها المحاصصاتية وتوجهاتها الطائفية وانتماءاتها اللاوطنية وخنوعها المهين للدول الداعمة لكل توجهاتها هذه . لذلك تفتقت افكار منظريها عن اسماء وشعارات جديدة وعن لغو سمته برامج انتخابية ، محاولة من خلال كل ذلك تبييض وجهها الذي سودته السنين الخمسة عشر الماضية بكل ما اقترفته هذه الأحزاب من جرائم وسرقات وانتهاكات في المجتمع العراقي الذي ارجعت عجلة مسيرته لعشرات السنين عاش فيها اهلنا تحت اجواء الإرهاب والفقر والجهل والتخلف على كل المستويات .
  • إفلاس احزاب الإسلام السياسي على الشارع العراقي وكشف ابسط انسان في العراق لكل الألاعيب الشيطانية التي وظفتها هذه الأحزاب طيلة الفترة التي تسلطت فيها على القرار السياسي في العراق ، جعل من نيلها ثقة الناخب العراقي بالشكل الإنتخابي الديمقراطي المعروف امراً في غاية الصعوبة . ولكي تتجازو هذا الخلل في سمعتها السيئة وصورتها القبيحة التي عكستها على الجمهور العراقي لابد لها وان تقدم بضاعة اخرى غير بضاعتها الدينية الكاسدة ، فلم تجد بضاعة افضل من تحويل الذئب الى شاة ولبس عباءة الدولة المدنية التي اكتشفتها على حين غرة ، بعد ان كانت فتاوى شيوخهم تصدح بكفر والحاد دعاة الدولة المدنية ، موظفة كافة الوسائل القمعية للنيل من افكار التوجه المدني العلماني الديمقراطي . اساليب الخداع الجديدة هذه التي تحاول احزاب الإسلام السياسي ان تستميل بها الجماهير الغاضبة على سياساتها اللصوصية وتصرفاتها الهمجية طيلة الخمسة عشر سنة الماضية سوف لن تنال النجاح على الشارع العراقي بعد كل هذه المآسي التي سببتها هذه الأحزاب له.
  • الإثراء الفاحش الذي جنته احزاب الإسلام السياسي في العراق نتيجة لنهبها ثروات البلد وسرقة خيراته وكل ما نتج عن ذلك من تردي الوضع المعاشي لفئات كثيرة في المجتمع العراقي ، هذه الوفرة المالية التي تتمتع بها هذه الأحزاب الحاكمة وضعتها في موقع تستطيع من خلاله استغلال الفقراء والمعدمين من خلال تقديم بعض المال لشراء الصوت الإنتخابي . لقد تخلت معظم هذه الأحزاب عن وساءلها السابقة بتقديم الهدايا العينية للناخبين ولجأت إلى تقديم " الهدايا " النقدية مقابل التخلي عن البطاقة الإنتخابية ووضعها تحت تصرف هذا المرشح الإسلامي "جداً " او ذاك ، واكثرهم لا يرى ضيراً في هذه المقايضة التي لا تتعدى مبدأ البيع والشراء ، كما يفتي لهم بذلك بعض شيوخهم ، ولا يرونها ايضاً بانها مخالفة لتعاليم الدين ، ولكن اي دين ؟
  • بعد ان انفضح توظيف الدين كوسيلة متخلفة مارستها احزاب وتجمعات الإسلام السياسي العراقية لكسب الشارع العراقي الى جانب مشاريعها اللصوصية ، غيرت هذه الأحزاب لمسارها الديني ، وما اقدرها على التغيير واللف والدوران ، واتجهت نحو العشيرة التي جعلت منها سوقاً جديدة لبيع اكاذيبها من خلال مشاريع اصلاح خيالية ووعود كاذبة لا تختلف عن اكاذيبها السابقة بتحسين الوضع المعاشي والخدمي ، غير متناسية تنبيه العشائر إلى اهمية المحافظة على تراثها ، لابل وحتى تبني اعرافها لتحل محل القوانين السائدة ووضع الوطن تحت طائلة الحكم العشائري مجدداً بعد ان قضت على ذلك كله ثورة الرابع عشر من تموز الوطنية . إن هذا التوجه الجديد والخطِر والذي يعيش المواطن العراقي مآسيه من خلال غياب قوانين الدولة وسيادة الأعراف والتقاليد العشائرية في المجتمع يشكل تطوراً سلبياً في الحياة العراقية التي يتطلع الجميع لأن ترقى بمستوى الإنسان العراقي إلى مصاف الأنظمة المتقدمة التي لفظت مثل هذه الأساليب التي لا تتفق والتطور العالمي السائد الآن في محتمعات القرن الحادي والعشرين .
  • مما يثير الرعب والفزع لدى احزاب الإسلام السياسي والقوى المشاركة لها في نهب البلد وتجويع المواطنين، ما افرزه الحراك الجماهيري الذي بدأ صيف عام 2015 وبروز بعض التوجهات الواعدة في تبني اطروحات الدولة المدنية واتساع فضاءات هذه الأطروحات لتشمل مساحات واسعة من الشارع العراقي انعكست على شكل تنظيمات حزبية ومجتمعية جديدة تبنت مساراً جديداً في العملية السياسية العراقية . يشكل هذا العامل الذي لم يكن متوفراً في انتخابات عام 2014 ولا في الإنتخابات التي سبقتها ، يشكل مصدر خوف وفزع لقوى سياسات المحاصصات المقيتة الإسلاموية منها والقومية الشوفينية التي بدأت تسلك طرقها الملتوية في التعاطي مع هذا الواقع الجديد عبر مسارين متلازمين . إذ ينطلق المسار الأول من الهجمات الهستيرية على التيار المدني العلماني الديمقراطي الذي سخر له بعض مهرجي المنابر كل ما لديهم من تخلف فكري لخلق فتنة اجتماعية سياسة، إضافة إلى ما خلقوه مسبقاً من فِتن طائفية ومناطقية ، تبنى بعضها اسلوب القتل لمواجهة التيار المدني العلماني الديمقراطي . في حين حاول المسار الآخر بالتلاعب بمشاعر الناس من خلال اكاذيبه السمجة بتبنيه للتوجه المدني في بناء الدولة العراقية الجديدة .
  • إن ما يزيد الإشمئزاز والقرف في اساليب الدعاية الإنتخابية التي توظفها احزاب الإسلام السياسي بشكل خاص وبعض التكتلات التي تدعي المدنية ايضاً على وجه العموم ، يتجلى من خلال تلك الأساليب اللاأخلاقية في مواجهة المتنافسين على المقاعد الإنتخابية . لقد انتشرت في الفترة الأخيرة التسقيطات بين منتسبي هذه الأحزاب على شكل ابتزازات او سرقات مالية حيناً او حتى اخلاقية جنسية احياناً اخرى ادت إلى الكشف الفاضح عن المستوى البدائي الذي يمثله مثل هؤلاء الذين يتصورون بانهم يستطيعون حكم بلد كالعراق ويوجهون سياسته المحلية والإقليمية والدولية وهم بهذا المستوى من الإنحطاط الخُلقي.
  • قد تكون هناك عوامل اخرى تصب في هذا الإتجاه لتحديد البوصلة التي يسير بموجبها الخطاب الإنتخابي في عراق اليوم . إلا ان الصوت الأخير الذي اطلقته المرجعية الدينية العليا والمتمثل باطروحة " المُجرَب لا يُجَرَب" قد هدَّ وهزَّ مضاجع احزاب الإسلام السياسي وقادته ، خاصة اولئك الذين يتسترون وراء انتصارات ابناء العراق على قوى الدولة الإسلامية الإرهابية المتمثلة بعصابات داعش واشباهها من عصابات البعثفاشية المقيتة التي عاثت في ارضنا الفساد ومارست الجريمة بكل اشكالها تجاه اهلنا على ارض وطننا ، وكل اولئك الذين وضعوا انفسهم ، بما لديهم من تنظيمات عسكرية خارجة عن سيطرة الدولة ، على قمة قيادة الحشد الشعبي، محاولين بذلك الوصول الى المراكز القيادية في الدولة العراقية بعد الإنتخابات البرلمانية .لقد حاول بعض قياديهم من التقليل من هول هذه المقولة ووقععها الكاسر على رؤوسهم ، إلا ان كل تفسيراتهم البدائية لهذه المقولة سوف لن تقلل من ابتعاد جماهير كثيرة عنهم وعن اكاذيبهم المضَلِلَة .
  • وقد نضيف على هذه الأطروحة شعار " الكاذب لا يُصَدَق " إنطلاقاً مما صرح به علناً وبكل وضوح زعيم حزب الدعوة نوري المالكي حينما قال :" في الحقيقة المتصدين من السياسيين والشعب يعلم ان هذه الطبقة السياسية وانا منهم ، ينبغي ان لا يكون لها دور في رسم خارطة العملية السياسية في العراق لانهم فشلوا فشلا ذريعا ، ينبغي ان يبرز جيل آخر ، بخلفية الوعي لما حصل وبخلفية الاخطاء التي ارتكبوها" راجع الرابط الخاص بذلك : https://www.youtube.com/watch?v=BMLcdhhxN7g
  • فحينما يضع المالكي نفسه اليوم في مقدمة اللاهثين وراء السلطة التي فشل فيها ، فإن ذلك يعني انه كاذب او على اقل تقدير لا يفقه ما يقول ويستغبي بذلك عقول الناس. وليس حزب الدعوة هو الحزب الإسلامي الوحيد الذي يكذب قادته على الناس ، فالكذب والدجل واللف والدوران اصبح السمة البارزة لأحزاب الإسلام السياسي عموماً .

إنطلاقاً من ذلك كله يتحتم علينا كمواطنين لم نزل مغلوبين على امرنا من قِبَل الأحزاب الدينية الحاكمة وشركاؤها من دعاة التعصب القومي والإنتماء المناطقي العشائري ، ان نأخذ زمام امورنا بايدينا ونقرر ذلك من خلال المساهمة الفعلية والجادة في الإنتخابات والإنحياز الكامل لقوى الدولة المدنية العلمانية الديمقراطية التي يمثلها مرشحو القوائم التي تبنت في برامجها الإنتخابية تحقيق هذا الهدف فعلاً لا كذباً او نفاقاً كما تفعل احزاب الإسلام السياسي .

اما الدعوة التي يطلقها البعض بمقاطعة الإنتخابات فليس لها اي ارتباط بالواقع المأساوي الذي يعيشه وطننا واهلنا والذي تسعى القوى الديمقراطية المدنية الى تغييره وإصلاحه .

عرض مقالات: