ثيمة الاغتراب، من أكثر المواضيع تداولا وتفاعلا مع الواقع العراقي المأزوم منذ عقود، فقد شكلت الغربة هاجسا لملايين العراقيين الذين غادروا العراق قسرا أو بإرادتهم، نتيجة الظروف السياسية والاقتصادية التي عاشها العراق في العقود الأربعة الأخيرة.. رواية "كيف تقتل الأرنب" للروائي صلاح صلاح، تناولت هذه الثيمة لكن من منظار آخر، أكثر جرأة وإيغالا في تصوير الواقع، او ما يقف خلف هذا الواقع ويشكله، حتى تخطى الروائي فيها حدود الخيال والمحظور والمسموح به، على جميع المستويات التي يمثل العرف والدين والأخلاق إطارها العام، وكذلك تجاوز على المسموح به في الذائقة الأدبية، أي التي يمكن للقارئ من خلالها ان يتفاعل مع النص ويستسيغه، وفق ثقافته الحتمية التي نشأ عليها، والتي تشكل منظومة القيم والأخلاق المحركة له والمؤثرة فيه، في هذا النص الجدلي الذي تعالق فيه الواقع بالخيال، نجد ان الروائي حاول إيهام القارئ بحقيقة كل ما حدث، وان ما يقرأه هو نوع من الابيتوغرافية، وجزء مقتطف من سيرة ذاتية لأحدهم قد يكون الكاتب نفسه، وهذا قد منح النص بعدا عضويا، أي إن الكاتب كان حاضرا بصورة او بأخرى في نصه، عبر بطل محوري، وجعل الرواية مستجيبة له من خلال فرض آرائه وأفكاره عليها، وهذا ما يطلق عليه اصطلاحا "وهم الإقناع"، وإحاطة هذا البطل بمجموعة من الشخصيات الضحلة غير النامية، التي تعمل على تعضيد النص وقصديته، وهي مقاربة لما يعرف في عالم السينما بالممثل الظل.. عاش هذا البطل الإشكالي محنة الاغتراب بعد أن سحقته سنوات الجمر في وطنه، حتى بدت الرواية وكأنها تمثل عملية ازدراء وتهكم كبيرة، مارسها الكاتب اتجاه واقع تناول الجانب المظلم منه، المتمثل بالدكتاتورية، والحروب، والحصار الاقتصادي، والفوضى، لم يجد غير التهكم والسخرية البذيئة وسيلة للتعبير عنه، عبر عمليات استحضار آنية استخدم فيها الكاتب تقنيات الارتداد والاسترجاع، لأحداث مقارنات ومقاربات بين ماضيه القريب وحاضره.
تبدأ الرواية بمشهد الطائرة المغادرة إلى كندا، وهي تحمل البطل وعائلته الصغيرة، ومن هذه العتبة ينطلق النص نحو انفلات لغوي وفكري، هو اقرب إلى ما يعرف "بقص الهذيان"، استخدم الروائي له لغة هجينة ساخرة ورؤى هيرمونطيقية تحاول إيجاد مخارج منطقية لما سيؤول إليه مصير هذا البطل وأسرته في بلاد الغربة، نلاحظ ذلك من خلال الحوار المقتضب الذي دار بينه وبين صرصور، في دورة مياه صالة انتظار المهاجرين الجدد في كندا، مثلت عملية تناص عكسي مع مسخ كافكا.. "وصلت أخيرا. أقول ومن أنت؟ يقول: أنا الذي أمام كل الذين يجيئون مثلك من عالم ما قبل الطوفان. أقول : سأبدأ حياة جديدة".
حلت الذاكرة بديلا عن الواقع الآني في كثير من محطات النص، لتعطينا نبذة مختصرة عن ماضي هذا البطل "ثقافته، وعيه، ظروفه المعاشية، علائقه الاجتماعية".. عمليات اجترار متكررة لمشاهد تمثل ماضيه القريب في العراق، كانت تمثل عملية ترسيخ للفوضى الفكرية التي يعيشها، عبر تقنية القطع في سياق المتن، وإحداث انتقالات زمانية ومكانية مفاجئة، لإعطاء تصور لدى القارئ عن طبيعة النقلة النوعية التي عاشها البطل بين العراق وكندا، وإظهار الجانب المأساوي من حياته في العراق، كعملية تبريرية لتحمله واقعه الجديد، الذي بدا أكثر مأساوية من العراق، وهو يعاني فيه، الصدمة، والدهشة من واقع عنوانه، الغربة، والوحشة، والرذيلة، والضياع.. بعد ان غادر عالما كان عنوانه، الاستبداد، والحروب، والجوع، والحرمان.. يستمر النص في انفلاته نحو مديات فضفاضة لا تحدها أي اطر منطقية او اعتبارية.. فيصور لنا الروائي حياة هذا البطل في غربته وعلائقه الاجتماعية التي تشكلت بفعل الغربة مع مهاجرين على شاكلته، وولوجه عوالمهم المظلمة، المتخمة بالرذيلة والانحطاط ، واستسلامه لأقداره التي فرضها عليه ذلك الواقع الجديد، دون اعتراض او مقاومة تذكر، على الرغم من ان أحواله كانت تسوء أكثر كلما انغمس في هذا العالم المخيف، ككرة الثلج المنحدرة نحو الهاوية، لينتهي النص بحالة ضياع تام وصل إليها ذلك البطل، بعدما فقد كل شيء، الوطن، الأسرة التي لفظته في الغربة وتخلت عنه لسوء سلوكه، أصدقاءه الجدد، كندا البلد الذي احتضنه بعدما أوغل في الاحتيال عليه.. كانت الرواية بحاجة إلى شيء من الهدوء والسكينة، واحتواء التشتت الذهني الكبير الذي عاناه البطل، والفوضى الفكرية التي هيمنت عليه، وجعلت السياق الحكائي للنص يقع أسيرا لها، بحيث جعلت بناءه الهرمي ذا وتيرة واحدة، عبر تكرار مفردات بذاتها، وفق رؤية سردية شمولية لا تضع حدا بين الواقع والخيال، والمعقول وألا معقول.

أهم محطات الرواية:

1- انفلات النص: إن استخدام صلاح صلاح تقنية الراوي الضمني، على انه السارد الوحيد والشاهد الوحيد لما حدث، وإعطائه كل هذا الكم المعرفي والثقافي، أضفى على النص طابعا واقعيا مفتعلا، قد يكون الجزء الأكبر منه افتراضيا لا يحمل من الواقع سوى ذهنية البطل المتخيلة، التي تعاني تخمة معرفية وموقفا سلبيا من متبنيات الآخرين، قد يقود القارئ الى الوقوع في ما يعرف "بوهم الإقناع أو وهم الحقيقة" أي يتصور إن كل ما قرأه هو حقيقة قائمة بكل متناقضاتها وسلبياتها.. حيث لم يضع لنا الروائي حدا فاصلا، بين ما هو متخيل، وما هو حقيقي، وان كان هذا الإجراء يمثل مرحلة متقدمة فيما يعرف "بما بعد الحداثة".. وان إحدى سمات رواية ما بعد الحداثة، هي التشظي وتحطيم محددات الواقعي والمتخيل .. كما يعبر عن ذلك براين ماكهيل بقوله "ان الخيال أهم سمات أدب ما بعد الحداثة".. حيث قام بتصوير مجتمع المغتربين العراقيين في كندا وسوريا، من خلال رؤية أحادية تحمل بعدا أيديولوجيا، ليعبر عن هذا المجتمع بأنه مجرد بيئة موبوءة غير منضبطة، قائمة على الجنس، والدعارة، والمخدرات، والاتجار بالممنوعات، بيئة متجاوزة بشكل فاضح ومقزز كل الأعراف الشرقية والتعاليم الدينية، كان بالإمكان أن يجعل فيها استثناءات حتى ولو على مستوى الأفراد، لتكون أكثر واقعية وتقبلا، لكن عملية التعميم التي هيمنت على النص، والرؤية الأحادية لذلك المجتمع المهاجر بهذه الطريقة المسرفة والبذيئة، لم تكن منتجة، لا على المستوى الفكري، ولا الأدبي، ومثلت انفلاتا فوضويا للنص، لان مهمة الأدب هي تسليط الضوء على بؤر التأزم الإنسانية بصورة صادقة ومنطقية.. وان أي عملية انتقاد تمارس ضد أي ظاهرة سلبية، سواء كانت أيديولوجية، أو ظاهرة اجتماعية خاطئة، او ممارسة دينية منحرفة، او معتقد شاذ، يجب أن تأخذ الموضوعية وعدم التعميم كمعيار لها، وان تقف على الحياد في عملية تشخيص الخلل، ومحاولة إصلاحه أو الإشارة إليه، وان لا تنساق إلى أقصى اليسار في عملية النقد، لأن ذلك يفقدها جدواها وقصديتها.. وهذا ما انتهجه الروائي في نقل الجانب المظلم من حياة المهاجرين العراقيين والعرب، حتى وصل حد الإسراف، ونجد ذلك جليا في عملية التضمين التي استخدمها الروائي في أصل المتن، كقصص "جاكلين وكريم، الشيخ عكرمة وزوجته، ام حذيفة والمهاجر الصومالي، سلوك سيد عبد الشاذ، سعود وزوجته" وغيرهم الكثير.. ولم تتشكل أي علاقة ايجابية نامية بين أي من أطراف الرواية على امتداد سياقها، الذي تجاوز الثلاثمائة والثلاثون صفحة.. هذا التوجه الفكري في السرد، هو عملية توظيف متوارية لنظرة فرويدية، تشير على إن الجنس هو من يحرك دفة التاريخ، وتأثير ذلك على الحراك الإنساني، بصفته العامة.
2- اللغة: كانت اللغة هجينة انفعالية متقدمة في اغلب محطاتها، تخللتها ألفاظ وعبارات بذيئة غير منضبطة، وظفها الروائي بهذه الطريقة لتكون معبرة عن واقع بطله المأساوي.. حملت هذه اللغة كما معرفيا وثقافيا كبيرا، انطلقت من الدين والتراث والتاريخ، عبر مقاربات وإسقاطات واستعارات لغوية، امتزجت بالفلسفة لتشكل ما يشبه "الكولاج اللغوي".. وبالرغم من كثرة استخدام الألفاظ النابية وتكرارها على امتداد النص، وباللهجة الدارجة أو الانكليزية، إلا إنها تمكنت من إيصال قصدية النص الذي يشير الى الغربة والتيه والضياع، من خلال تحويلها إلى بانوراما وخليط غير متجانس من ثقافات عدة، واستحضار شواهد تاريخية وميثولوجية، وتناص قراني وتوراتي وتراتيل سومرية، والاتكاء على المفردة الموحية، والجمل الخبرية، واستخدام أفعال إنجازيه، لإضفاء صبغة انطباعية على النص، وهذه الأفعال تفيد الاعلانيات، التي تعمل على أحداث تغيير في الوضع القائم، أي تغيير قناعات المستلم "القارئ"، هذه اللغة الهجينة تعطي انطباع لدى هذا القارئ على إن النص عبارة عن رؤية "سيسيو ثقافية" لواقع مأزوم..
3- جدلية الانتماء: تميزت شخصية البطل بأنها لا منتمية، تحددت ملامحها وفق رؤى شخصية ناتجة عن ثقافة استثنائية تمتعت بها هذه الشخصية، التي تعايشت مع الواقع بطريقة غير منسجمة، لم تستطيع التأقلم معه، حيث كانت معترضة تهكمية، هذه التركيبة الإيديولوجية والنفسية المعقدة، جعلت من البطل يعاني الغربة، ويتحسسها بغض النظر عن طبيعة المكان والزمان، لذا نجد إن هنالك تناصا بينه وبين بطل رواية الغريب لألبير كامي، فكلاهما لا منتميان، يعانيان الغربة القسرية، بلا مشاعر أو ردود أفعال حقيقية، اتجاه ما يصادفهما من أحداث ومواقف.

عرض مقالات: