ربما تعد هذه المقالة تذكيراً ملزما بالفنان الراحل محسن الشيخ الذي غادرنا مبكرا في العام 1999 وهو في ذروة عطائه وشبابه المحتدم، حينما كرس حياته المهنية والاكاديمية لهذا الفن التمثيلي المعقد في العراق، فكان مؤلفا وممثلا ومخرجا للعديد من العروض المسرحية، معتمدا على قوام جسده الفارع وسحر ايماءات اطرافه وتعابير وجهه بمصاحبة الموسيقى والاضاءة والديكور، وصولا الى حالة التجلي الروحية والعرفانية على خشبة المسرح، وهي حالة اشراقية مبهرة قلما يتوافر عليها ممثل المسرح في اي زمان او مكان، وربما هي الحالة التي قادته الى اعتلال صحته في الاشهر الاخيرة من حياته، فأنطفأ كانطفاء اي نجم لامع في سماء مسرحنا العراقي.
ان تتبع المسار التاريخي لفن التمثيل الصامت او الايمائي في العالم والعراق بشكليه المعروفين "البانتوميم/ المايم" يساعد على فهم اساسيات تشكله كفن مستحدث من خلال العروض الاوبرالية والعاب السيرك والسينما الصامتة منذ بواكير القرن العشرين، وذلك لأسباب موضوعية وذاتية رافقت هذا الفن. وربما كانت مسارح باريس تمثل الريادة الاولى في صناعته او الترويج له، عبر رجالات المسرح الطليعي وقتذاك، امثال: "انطوان، فيلار، دولان، فيتراك، الفريد غاري، انتونان آرتو، جان كوكتو وآخرين". إذ من خلال هؤلاء الاساتذة الكبار في المسرح الطليعي الفرنسي، نهضت قامتان هائلتان في التمثيل الايمائي الصامت في باريس: جان لويس بادو، ومارسيل مارسو وهما من اشاعا هذا الفن في عموم مسارح العالم لجلدهما المستمر وصبرهما الذي لا ينقطع من اجل ارساء المداميك الاولى له.
وهذه هي المعضلة الاولى التي لم يدركها الكثير خصوصا الشباب في مسارح العالم، وايضا شباب المسرح في العراق حول التاريخ الآركولوجي "الاحفوري" لمنصات فن التمثيل الصامت. اما المعضلة الثانية لهذا الفن المستحدث، انه ولد قاصرا من دون نظرية او اعلان او بيان كما تواترت نظرية ارسطو في المأساة او الملهاة اليونانية التي رافقت عروض اسخيلوس ويوربيدوس وسوفوكليس وارستوفان في مسارح اثينا الاولى او نظريات سينيكا التالية في المسرح الروماني او القواعد النظرية والمنهجية للناقد "بوالو" حول الكلاسيكية الجديدة في فرنسا من خلال مؤلفها المتفرد راسين. وهكذا الامر حول النظريات الليازابيثية المعروفة التي رافقت وليم شكسبير واقرانه، فضلا عن نظريات عصري النهضة والتنوير بأقلام: "جوته، ليسنج، نيتشه، فاغنر" وآخرين. مع النظريات المعروفة لستانسلافيسكي حول اعداد الممثل او غروتوفسكي حول المسرح الفقير او يوجين باربا حول المسرح الانثروبولوجي وغيرها الكثير من النظريات المسرحية التي يتواشج فيها التطبيق مع النظرية، حتى وان شابهما الوهن والتقصير في منعطفات مريرة او شكلية. فربما هي مسموحة لفطنة المتفرج، او ملزمة لافق قارئ العرض المسرحي المعاصر كما تروج ادبيات المناهج المسرحية الحديثة.
ولعل ثالث معضلات المسرح الايمائي الصامت في العراق يتعلق بالمصطلحين المتداولين المتشابكين فيه، اي "البانتومايم والمايم" حينما يكون لغزاً او احجية مضحكة بين طرفين متنازعين من شباب المسرح، من دون ائتلاف مقنع ما بين الاثنين. وواقع الحال وبعيدا عن المعاجم المتعددة لمصطلحات المسرح ذات الطابع الفقهي او اللوذعي غير المدروس، فان الورش المسرحية او تمريناتها المستمرة "البروفات" قد حلت هذه المعضلة منذ زمن بعيد، باعتبار ان المصطلح الاول يعني عمل الممثل المعزز بالصمت والايماءات في مشاهد معينة من دون فقدان صوته الصائت او الجهوري في عموم العرض المسرحي. في الوقت الذي يحيلنا المصطلح الثاني الى صمت الممثل الدائم طيلة العرض او التركيز على منظومة الجسد وايماءات الوجه والاطراف وبأنساق السينوغرافيا او تقنيات المسرح المرافقة للعرض المسرحي المذكور.
اما رابع معضلات هذا المسرح، ان لم تكن آخرها تحديداً فهي ذائقة المتفرج المسرحي او متعته السمعية والبصرية معا، حينما تغيب الوسائل الحوارية في العرض، كالكلام والآهة والضحكة المجلجلة او الهمسة العابرة ويصبح رهين ممثل صامت اشبه ببهلوان السيرك في تضاريس منصة مسرحية قد تتسع الى سبع او تسع مناطق جغرافية معروفة ومشدودة للصورة المسرحية المطلوبة في كل مشهد من دون حبكة ركحية يتفاعل بها الصوت مع الصورة، او الحوار مع منظومة الجسد، او من دون تفاعل لميزان التشاكلات الدرامية المعروفة بين الاثنين فان العرض المسرحي ولا شك يصبح مغامرة تجريبية بعيد الابعاد والمرامي عن فعل المسرح ان لم تكن حماقة مسرحية بالكامل.
اضع هذه المعضلات الاربعة مقدما قبل الاقتراب من شواغل ولواعج زميلنا الراحل محسن الشيخ، حينما ركب بحر التمثيل الصامت مزودا بعدة ثقافية ومعرفية لأحوال المجتمع وطيب النفس وحلاوة الروح التي تطمح الى الثقة بالحاضر والامل بالمستقبل، من دون جدوى، لان حالات الحروب والحصار الدولي والكفاف العائلي هي خبزه في معتركه اليومي او في مواجهة صبواته الفنية او حلمه الفني المشروع في ترسيخ حلمه الاثير بإنزال طقوس الصمت او الايماءة في العراق.
كان الشيخ معي في قسم المسرح خلال الاعوام "94- 1998" في كلية الفنون الجميلة، وهو المتخرج السابق من معهد الفنون الجميلة هو في الدوام النهاري مع ثلته الشبابية التي تتواصل معه في ورشات وعروض متعددة وانا في الدوام المسائي مع اقراني من الكتاب والمخرجين والمسرحيين المعروفين وقتذاك امثال: "عادل كوركيس وخزعل الماجدي وفيصل جواد وحنين مانع وزهير البياتي وصبحي الخزعلي وقاسم مطرود وآخرين. وكانت تجمعنا قواسم مشتركة في الحديث عن أي اسلوب مسرحي جديد، لا يمكن ان يضاهيه احد غير استاذنا سامي عبد الحميد الذي يشترك معنا بالشيء الكثير من القواسم المذكورة.
ومن اجل الاقتراب من شواغل وانهماكات زميلنا الراحل محسن الشيخ في المسرح الصامت لا بد من التذكير بالخلفية التاريخية لعروضه السابقة في العراق عبر الدراسة القيمة التي نهض بها الباحث المرحوم علي مزاحم عباس التي تضمنها كتابه الموسوم "فن التمثيل الصامت في العراق/ دراسة نصوص" الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة في 2004 فهو يرصد مجموعة متعددة من عروض المسرح الايمائي الصامت العراقية، على وفق التسلسل الزمني التالي:
* يرقى هذا الفن الى عام 1929 حينما عرضت (جمعية التمثيل العربي" في بغداد مسرحية "عايدة" الاوبرا الشهيرة للموسيقار فيردي، بعد قيام رئيس الجمعية ومخرج اعمالها الفنان الرائد محمد خالص الملا حمادي بإعدادها للمسرح وقام الفنان عناية الله الخيالي "1911- 1990" احد شهود الحادثة وبطلها وممثلها بتقديم ارتجالية صامتة وساخرة تمثل شخصية ضابط انكليزي على هامش قصيدة لمحمد مهدي البصير شاعر ثورة العشرين المعروف كان يغنيها الطالب ابراهيم ادهم من وراء الكواليس ومطلعها: "قل لمن يخطب ليلى بزواج يزدريها – رمت أمرا مستحيلا والسما من يرتقيها".
* في سنة 1957 اشترك لفيف من العراقيين المناهضين للحكم الملكي في مهرجان دولي للشباب في موسكو تحت عنوان "جحا والحمامة" من تأليف واخراج الفنان الرائد يوسف العاني حينما وجدوا في العمل حلا ناجحا للتعبير عن القضية السياسية تخطوا به حاجز اللغة.
* في عام 1958 قدم في الديوانية عمل ايمائي صامت من احد الهواة كان يُعرف بـ "الجابي" ويعمل قاطع تذاكر في احد دور السينما لعله خاض تجربته مقلدا الافلام الصامتة. وبعد عشرة اعوام شهدت المدينة تجربة اخرى على يدي المدرس رياض الشبلي استغرق عرضها عشر دقائق فقط.
* في عام 1962 دعا المخرج الرائد جعفر علي طلبته الثلاثة الراحلين :سامي السراج وسالم الزبيدي وكاظم فارس وآخرين للمشاركة في مسرحية صامتة سميت "قصة شعب" فكانت تجربة مثيرة ومبتكرة تندد بالعهد الملكي ضمن حدائق معهد الفنون الجميلة وتم بثها تلفزيونياً بصورة حية في وقت لم يكن للتلفزيون التسجيل المسبق وهكذا شاهد المتفرجون في عموم العراق هذا النوع من الفن الايمائي.
* في عام 1965 قدم الفنان سامي السراج اطروحة تخرجه من المعهد المذكور "حلاق اشبيلية" لبومارشيه ونفذها بطريقة الفن الصامت واستغرق عرضها ثلاثة ارباع الساعة، وهي مدة طويلة ومرهقة.
* واخيرا يذكرنا الباحث علي مزاحم عباس بأهم التجارب المسرحية في الفن التمثيلي الصامت خلال الربع الاخير من القرن العشرين، ومنها تجارب المخرج القدير سعدون العبيدي في تقديم عرض "الرسالة" عام 1972 بكل معايير ومنطلقات الفن المذكور وبمضامين سياسة وطنية استهوت الجمهور والعديد من الفنانين وكان من ابطال هذه المسرحية: قائد النعماني، نزار السامرائي، اسعد راشد، رياض النعماني، غازي ميخائيل، وعلي عبد العزيز. وبعد مضي اربعة عشر عاما، وبالتحديد عام 1986 نتعرف على تجربة جديدة للعبيدي في مسرحية صامتة اخرى حملت عنوان "صور من الحياة" تعد ارصن وانضج من سابقتها في ظروف مغايرة من النواحي الثقافية والاجتماعية والسياسية، حينما برز فنان مجتهد ومكافح، واعني به الفنان محسن الشيخ فعقد له لواء البطولة في هذه المسرحية فكان للشيخ فضيلة الاستعداد والتطلع ضمن من سبقوه او عاصروه في هذا الفن الصعب، امثال الفنان الشهيد عدنان نعمة ومنعم سعيد وخالد ايما واحمد الشرجي وعلي دروش وانس عبد الصمد وغيرهم الكثير.
ومن اعمال محسن الشيخ المعروف بغزارته في العمل والحيوية والانتاج والعرض، فقد كتب ومثل واخرج اكثر من عشرة اعمال، منها: " مهرج الملك الحزين، الموسيقار الضاحك، احمد الزعتر، بائع الضحك، سيمفونية الصمت، ايها الطائر لا يكفي ان تقول لا ..". ولعل ابرز عروضه الايمائية الصامتة مسرحية "انفجار الصمت تحت الصفر" في مهرجان المسرح العربي ببغداد، والمسرحية قام بكتابة السيناريو لها اكرم كامل.