المعني بالطابع البدوي للثقافة، تلك التقاليد التي رسختها البادية في الثقافة العربية القديمة، وكيف تسربت أبعادها إلى الثقافة الحديثة، فالمعروف أن البادية تؤسس لعلاقاتها بنية اجتماعية قائمة على الجغرافية ، وليس على تاريخها أوأزمنتها، فلم تذكر من أزمنتها إلا ايام العرب المعدودات، فمعظم القبائل البدوية راحلة، وهذا يعني أن علاقتها بالزمن تابعة لحركة الفصول على الأرض، في حين أن علاقتها بالأرض، مكانيةً وموارد انتاجها، فهي التي تؤسس طبيعة شبه ثابتة للثقافة، تنتقل معهم على شكل تقاليد وأعراف وحكايات وأمثال وحكم، وتتجدد كلما اضافت الطبيعة لها عامل انتاج جديد. فتكون الثقافة مرتحلة أيضًا، وقابلة لأن تتجدد تبعًا لما يضاف إليها أو يثلم منها، مما يعني انفتاحها على طبيعة الأرض وخصبها وجدبها، وانغلاقها على نمط ثقافي محدد، هو الشعروالحكاية. وعلى ما تنتجه العلاقات التي تنشأ كجزء من متغيرات الحياة المتنقلة.
إلا أن الرابط الأكثر جدوى في هذه الثقافة هو اللغة، ونجد ذلك واضحًا في قواميس اللغة العربية التي بنت كيان مفرداتها على متغيرات الحياة البدوية وما يتبع ذلك من ثبات وتكرار في حركة الجِمال والرمال والواحات والكثبان، واعتمدت المرويات السردية وديوان الشعر على هذه المتغيرات المكانية فثيمة التكرار والمتواليات، كجزء من رسوخ تقاليد ثقافية متداولة لأجيال مختلفة، لأن الأمكنة على الرغم من تغيرات تضاريسها بفعل التعرية، تميل في البادية إلى الثبات، الأمر الذي يجعل الحكاية أكثرالفنون التصاقًا بالبيئة البدوية، وقراءة الشعر العربي القديم تؤكد أن التوالي في ايقاعاته وموضوعاته وخاصة ثيمة الاطلال والغزل جزءًا من لوازم البيئة المتكررة التي تمارس حضورًا وجدانيًا وبصريًا على الشاعر، يكون البيت/ الخيمة مثاله المجسِّد للثقافة" حيث تنتظم الثقافة فيه على وفق النسق الذي يشيده، ليجد نفسه في تشابك متين بين انتاج الجغرافيا وانتاج اللغة، ويعني ذلك أن الثقافة لا تخرج عن هذين الميدانين: المكان والممارسات الحياتية التي تؤكد جذور الكلمات وتربطها بالحياتي والممارساتي. وقراءة بسيطة لهذه العلاقة نجد أن جذر أية مفردة لغوية هو بنية مكانية وليست تاثرًا ثقافيا أوتلاقحًا حضاريًا مع الآخر. فظرف المكان هو الأكثر حضورًا في اللغة من أية ظروف أخرى. لذلك يتم إنتاج المعارف من خلال علاقة البدوي بأمكنة انتاج قوته، ورعيه، وحكاياته، وثقافته العامة، وتقاليده، وما تفرزه البيئة من علاقات أخرى مع حيوناتها وكثبانها وأمطارها وواحاتها وجبالها، من دون أن تغلق اللغة على نفسها أبواب التأثر بممارسات جديدة تنفتج عليها حياتهم اليومية.
ان البادية تضع ناسها في متاهة المكان ومخاوفه وغموضه، على الرغم من معرفته بها، فالزمان هو الذي يحدد علاقة البدوي بالمكان، لأن الفصول هي الأكثر صلة بالتاثير على الأمكنة خصوبة وتنقلًا وكسبًا معيشيًا، إما من خلال التأثيرات المباشرة التي تُحدثها فيه الظروف المناخية، أو من خلال ما يحكى عن دور الشساعة الفضائية في جلب المخاطر والمخاوف والشرور من حيوانات كاسرة؛ ذئاب وضباع وأسود، وغزاة، ولذلك يتتبع البدوي تأثير الفصول على الأمكنة، كجزء من حماية ذاته، و ممتلكاته من الحيوانات، إن حس العلاقة بين الرعي والأمن، واقتصاد الماشية، واقتصاد الفصول ينتقل تبعًا لحاجة اقتصاده إلى أي منطقة يحقق فيها هذه العلاقة. ولم يقف الأمر عند علاقة المطر أو الريح أو الندى مع الكلأ والماشية، بل يتجاوز ذلك إلى دخول الربيع إلى ميادين اشتغاله اليومي، فتتغير علاقته بالأحياء الأخرى، مدحًا أو تغزلًا أو هجاء، أو كرمًا، كل ذلك يتبع ما يفعله الزمن من حيوية في الأمكنة االتي تعاني الجدب والشح. ولم يقف الأمر عند سطوح الظاهرة الاجتماعية، والمعايشة البصرية اليومية لظواهر الطبيعة ، بل تتجاوز ذلك إلى الغيب والمجهول فيستعين بثقافة السحر والتعويذات والطلاسم، وتعد الحكايات جزءًا من ثقافة الغائب. ومن خلالها يستحضر تاريخه وموروثاته كجزء من فصول الشح والثراء، فتتوالد الحكاية وتتكرر رواياتها وتصاحب ذلك الربابة وأصوات الغناء، كي يبعد عنه فصول القحط، فأغاني البادية تنهضها الأمطار والماشية والرعي والخضرة، والغزو، والكسب، ومن هنا تتغير علاقاته بالمرأة تبعًا لحاجته إلى الخصوبة ، حين أصبحت العلاقة مع المرأة جزءا مع خصوبة الأرض، وواحدة من تمردات البدوي شعرًا وسلوكًا على النسق الثقافي المتكرر، وعدّ الصعاليك قدوة في اقترانهم الخضرة والزرع بالمنح بالمرأة، ويعد ذلك خروجًا على النسق الثقافي التقليدي. كما تتغير علاقة البدوي بالأشياء اليومية المتغيرة، لأنها ستوفر له مزيدًا من الإنتاج الثقافي الشفاهي.
لايمكن فهم العلاقة مع البادية من خلال مروياتها القديمة فقط: الشعر والحكاية والغناء والربابة والقليل من الدبكات ومناسبات الزواج والأعياد، إنما من خلال العلاقة المربكة مع الماء، والنار والتراب والهواء، والسوق، وتعد السوق المظهر الاقتصادي لمباريات الشعر، فالقصيدة بضاعة القبيلة ومادتها وهويتها وتجارتها، حيث يتحول الفخر إلى بضاعةاعتبارية، فشح الماء يعني موت الخصوبة، ويعين قلة الإنتاج الثقافي، ولذلك كانت الأدعية بمناداة السماء كي تمطر منتشرة قبل مجيء الديانات، كجزء من اقنران العيش بالمجهول، أن العلاقة التي تربطه بالحياة تتم عبر توفر الماء.
نجد صورة أكثر درامية لعلاقة البدوي بالمكان، هي اختصاره للأمكنة بأشياء محدودة وكثيفة: الخيمة وقد استوطنتها هندسة ثقافية استمد الشعر من بنيتها بعض مسمياته البنيوية، الكثبان، الدليل الخرائطي لأمكنة الصحراء في السفر والترحال، التي تقترن بالحكاية والسهرواشعال النار، القبور، وتذكره بزمنه المحدد بالموت، الواحة وارتباطها بالخيرات، وصلتها الجذرية مع البستان والعطاء وارتباطها بالعيش ووفرة الحكايات، المرعى، ويشكل له ثلاث ثيمات جذرية: توفر الماشية والاطمئنان إلى غده، التبادل الاقتصادي مع الآخر، المركزية الإعتبارية والوجاهية. وهذه الميزات الثلاث وغيرها كلها مكانية، مع أن هذه الامكنة غير مأمونة الجانب، لا من حيث متانة تشييدها ولا من حيث استقرارها، إلا أن البدوي يتلاءم معها شعوريًا، لذلك يكثر من مدح الذات وثبات الموقف وعدم المهادنة مع العدو، وعدّ الغزو جزءًا من ثيم الثار. لذلك تجد المخاوف مهيمنة على انسان البادية رابطًا بها بين افعال الطبيعة وأفعال الأقدار، وكأنه يعيش في دومة من المخاطر التي تسببها مجاهيل الأرض وأمكنتها وأحيائها وما تضمره الشساعة من مجهولات. فالبدوي لا يبني بيتها قويًا مستقرًا، بل يستوطن القوة في ذاته، التي من شأنها أن تجعل كل مقتنياته ثانوية إزاء ذاته القوية، بناء البيت عنده، جزء من المخاوف الآنية، فالوقتية الزمنية التي تلازم الخيمة لا تجعلها مؤمنة لحياة طويلة له، لذلك نجد انسان البادية لا يستوطن خيامه في أيام الصيف لأن المناخ يتيح له حرية الإتصال بالسماء، بينما تحجبه الخيمة عن تأملاته في الشتاء، فيلجأ إلى المواقد والحكايات والذكريات، ومن ثم يغفو كأي كائن متعب على دفء الكلام ونار الموقد الهادئة والحكاية الناقصة.، معتمدأ على قوة حدسه بالمخاطر.

عرض مقالات: