1
حين قابلتها أول مرة كانت تطفو على خجل بصري، جعل أصابعها الخالية من طلاء الأظافر لا تفارق ذؤابة ضفيرتها . لم تتجاوز حينها ربيعها العشرين. جنوبية اللسان والملامح، وجهها مستدير كرغيف خبز ناضج وعيناها عميقتان بلون شط العرب أيام الربيع.
ــ من أسماك ِ وثبة؟
تفتح عينيها على سعتهما، تمتد شواطئ شط العرب بعيدا، تلوح لي بساتين أبو الخصيب .. السيبة .. حمدان .. كوت الزين، مكتظة تضج بالدهشة والحياة.
ــ أبى!
وتبتسم بأعتزاز. أسأل وكأني منقاد للاجابة:
ــ ماذا يعمل أبوك؟
وبدون تردد اسمعها:
ــ عامل في مسفن الداكير!
وحين المح عناق الأصابع والضفيرة المتواتر، اسأل بترو، بطريقة تبدو محايدة:
ــ لماذا اسماك وثبة؟
بتؤدة وبسمة زايلها الاضطراب، وبشيء من الثقة وكأنها تقرأ في صفحة كتاب، تجيب:
ــ صادف ميلادي ذكرى وثبة كانون!
2
لم تحفظ لنا الأيام صورة فتاة الجسر، لم تحمل لنا أوصافها، ملامحها، حملت لنا وبكل بهاء صورة موقفها البطولي يوم واقعة الجسر، أيام وثبة كانون 1948 المجيدة، يوم تقدمت الصفوف وحسمت لحظة تردد تاريخية.
لكني أعرف فتاة الجسر!
اعرف تفاصيل وجهها، لون عينيها، كيف تحزن وتبتسم، كيف ترف رموشها حين تزعل، كيف تعبث بضفيرتها إذ ترتبك، كيف يكتسي صوتها بالدفء وهي تروي شعرا، وبالغصب حين تناقش في حقوقها، كيف تحرك أصابعها برشاقة تطرز ورودا وحمامات بيضاء، كيف تتثنى وهي ترقص "الهيوا"، كيف تأكل و .. بل أكلت من بين يديها وزرت بيتهم وتعرفت إلى أبيها، الذي فاجأني بأنه ذاكرة حية لنضالات عمال مسافن البصرة.
3
كيف حصل هذا التطابق؟ هذا التداعي ؟ سموه ما شئتم، لكني ومذ أن تعرفت إلى ذات الضفيرة، وكلما جرى الحديث عن وثبة كانون، ويصل إلى فتاة الجسر، تلوح لي "وثبة " بقامتها الرهيفة، بوجهها القمحي، وعينيها البنيتين، متجددة العطاء كنخلة عراقية، واشعر أن ليس غيرها من تصلح لان تكون ملامحها هي ذات ملامح بهيجة!
وسأظل .. وعلى الدوام، كلما تلوح "وثبة " في الأفق، تلبط ضفيرتها في روحي، فأحلق في فضاءات الانتماء، وأحط في كف الأغنية سعفة مترعة بالخضرة:
" دم ... والهتاف انجمع ، تسبيح أجه لتسبيح
يا يمه جن الشعب ... طاح السمه وما يطيح "
كانون الثاني 1988
كوردستان ـ مقر الانصار في " مه راني "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* النص عن كتاب " تضاريس الايام في دفاتر نصير". يوسف ابو الفوز. دار المدى للثقافة والنشر والتوزيع . دمشق 2002

عرض مقالات: