أولا
الكتابة مغامرة، محسوبة العواقب، من المفترض أن تكون كذلك تخلصا من الفوضى، الكتابة فعل قصدي يعتمد المتحول وليس الثابت، كما يرى القارئ المتابع، فمعظم كتاب السرديات العراقيين كائنات تعتمد المتداول والمتعارف، والمتوفر، أما المختلف فهو أمر صعب الحدوث، أو الحصول عليه.
الكاتب الاعتيادي وليس الاستثناء لا يجد أمامه سوى صورته، ليس من الضروري أن تكون هناك مرآة غير التي بين يديه، مهما كان صفاؤها، أو ضبابيتها، بل لا يمكن أن نجده يعاين نفسه في وجوه وتصرفات الآخرين.
العشرات من الصور المنتجة من صورته/ سيرته الشخصية هو لا صورة سواه، لذلك سوف يجد القارئ أن لا وجود للآخر فيما يكتب القاص أو الأديب.
وعندما يغادر القاص أو الروائي تاريخه وجغرافيته/ ملفه الشخصي سوف يجد أمامه كل الاشياء المختلفة، "الكائنات، التواريخ، الجغرافيات، الوقائع"، يجد قدراته على صناعة الكائن القصصي الاستثنائي، وذلك بسبب غياب ثوابت الواقع الصلد، وضمور قدرات النسق المتداول القابل للاستبدال.
****
الروائي حامد فاضل، المتمدن الذي استبدل نفسه بالبدوي، ومدينته بالصحراء في "الف صباح وصباح" يشكل أحد القصاصين المختلفين، المغامرة تحتاج كائنا شجاعا، كائنا متحولا في الكتابة التي تعتمد المتخيل، ،هذا الكائن الأسطوري الذي لا قدرة لمنظومة ما أن تقف بمواجهته،
حامد فاضل يتخلى عن التاريخ - كائنات ووقائع ليستثمر منجز ابداعي سابق يعتمد المكان ككائن مضاد/ معاكس للفعل المعماري الذي تتميز به المدينة، في كتابه السردي السابق "ثقافة الامكنة/ مرائي الصحراء المسفوحة" واذا ما كانت الكتابة هنا خاصة تعتمد الجغرافية كمنتج للنصوص التي تعتمد البصريات/ رؤية العين، فإن فاضل حامد استطاع أن يستثمر نصوص الجغرافية وقدراتها على الأخذ بيده إلى تأثيثات المكان --كائناته، تبدلاته -- بفعل تحولات الفصول وتأثيراتها على بنية المكان المتحركة -رمال، أعشاب، حيوانات، رياح، غدران، آبار، فرائس.
هل هناك تواصل بين الكتابة والبنية الأولية للحياة، تمكن من خلالها الكاتب من الاستحواذ على قدرات المخيلة البشرية في استجلاب الغريب و صناعة المفاجأة؟
في -الف صباح وصباح - حيث يتمكن الكاتب من إعلان متوالياته التي استطاع عبرها استحضار فنية الكتابة في - الف ليلة وليلة -ومتوالياتها، حيث الحكاية في اولياتها الممتلئة بالغرابة والمختلف.
في السابق حيث الليالي يؤكد الكاتب على وسائل الاختلاف عبر السحر والجان والميتافيزيقيات/ القوى الغيبية /الماورائيات.
في الاصباح يؤكد الكاتب المعاصر على الانفتاح على المخيلة، الانفتاح على الواقع/ الجغرافية الصحراء، حيث تبدأ عين الكاميرا بحيادية -- الحيادية هنا تعني حالة احتفاء/ معايشة صميمية، حيث يتحول المكان إلى إحدى الوظائف البيولوجية لجسم الإنسان، المكان عضو بشري يشتغل خارج/ داخل الجسم.
إنها الحيادية الشديدة التي تستطيع وبشغف تأثيثات المكان، حيث تتحول الصحراء إلى مسرح للحكي.
انه الكاتب/ العين الذي لا تفوته صغيرة ولا كبيرة، هنا تبدأ تأثيرات الجغرافية الجديدة/ المختلفة بطرح فاكهتها الطبيعية، لا تستأذن احدا حين تنشر ثقافتها، التصويرية على يد قاص متمدن استطاع أن يستعين بالبداوة ممثلة بالصحراء لبعض الوقت.
"
وانا رجل حكاء، لا تكاد الحكاية عندي تنتهي إلا وتبعتها اختها" هذه الامتدادات لا تتشكل وسط المدن، إنها بحاجة إلى جغرافيات سائلة، لا عوازل، لا موانع، لا عثرات، هذه الجغرافيات لا وجود لها إلا عند خزائن البدوي الذي سيكونه القاص،
وإذا ما كان للمكان من هيبة ثقيلة فسيحة في كتاب القاص السابق "مرائي الصحراء المسفوحة" ففي المباحات تبرز ممتلكات أو ما يسميه المسرحيون - السينوغرافيا - التي يحاول الحكاء أن ينشرها وسط متحف الحياة ،حيث الصحراء بكائناتها تحاول أن تطلق اشاراتها.
الحكاء هنا يعتمد المفاجأة كمفصل مهم من مفاصل الكتابة المستقاة من جنس أدبي يعتمد الخاتمة/ القفلة المؤقتة، هذا المفصل الذي تعتمده الومضة الشعرية، أو القصة القصيرة جدا.

ثانيا
مغامرة الكتابة لم ينتجها الفراغ، بل أنتجها مخيال الواقع، أنتجتها مغامرات شخصيات النص السردي.
قدرة السارد/ الحكاء على صناعة الانتقالات، على الاستفادة من جغرافية المكان من الممكن أن تكون غريبة جدا بالنسبة للقارئ.
ان تحولات الطبيعة ومفرداتها لم تشكل فعلا مألوفا بالنسبة لسكان المدن، ولأن القراءة بشكلها المتعارف عليه، المعتمد على طباعة الحرف لم يكن يشكل ملمحا بدويا بل هو من مواصفات المدينة. فالكتابة عن التشكيلات المكونة للصحراء - الإنسان، الحيوان، الطبيعة - سوف تشكل حالة غرائبية، وربما تشكل لسكان بادية السماوة الكثير من البهجة، لأنها تمثل مصدرا لاستعادة ذاكرة المكان التي تحاول مقاومة الانقراض،
*****
يشكل الحكاء/ المؤلف في --الف صباح وصباح - و شهرزاد في الف ليلة وليلة -مصدرا أساسيا وحيدا على الرغم من بعض التنازلات التي يقدمها المؤلف المعاصر، كشكل من أشكال التنوع، وتدمير الخط السردي المستقيم.
هل كان حامد فاضل مقلدا وتابعا للمؤلف السلف؟ أم أنه استطاع أن يستفيد من شكل سردي قديم من أجل إنتاج نص سردي معاصر، سردي مدني في خدمة سرد صحراوي، شكل سردي من الممكن أن نقول عنه باذخ، من أجل إنتاج سرد ينتمي الى البرية، الى الحياة في اولياتها، حياة ما زالت باكرا رغم المعاشرة اليومية،
في الصحراء تتجدد وحدات الجغرافية، استخدام كهذا بتصور الرائي، أولي لكل الأشياء، فهو يعمل على استبدال الليالي بالصباحات، والسارد/ شهرزاد بالمستمعة/ المتلقية، والواقع المتخيل/ الميتافيزيقي/ الغيبي بواقع ارضي رغم المتخيل الشديد، إلا أنه شديد الواقعية.
فاضل حامد في صباحاته هذه لا يعمل على صناعة تبعيته للبداوة، بل يعمل على أن يظل ساردا. كاتبا، قارئا، لا يمارس فعل البادية، إلا من خلال الآخرين، لم تكن الصحراء متحف شمع، وما كانت كائناتها مجرد تماثيل، وحيوانات محنطة، بل إن الجميع يمارس حياته بتأكيد شديد على مفرداتها وما تتميز به من اختلافات، قارئ الصباحات من المحتمل أن يكون محملا بقراءات سابقة أهمها "مرائي الصحراء المسفوحة".
أنا كقارئ أعتقد أن الصباحات هي واحدة من منجزات الكتابة عن الامكنة، الكثير من الكتب تحمل بين ثناياها، و طياتها ارواحا، واجنة تستحث الكاتب على أن يفرد لها كتابا، أو صفحات، وهذا ما يمكن أن أقوله قد حدث في الصباحات، أفكار، وتداعيات ووقائع لم يستطع أن يستوعبها الشكل السردي للكتاب الأول، ليجد الكاتب نفسه مدفوعا بالفعل الكتابي الذي ينتمي إلى المختلف عن صناعة الكتابة التي قد تنتمي الى فعل تدويني سابق.
قد لا تكون المتواليات/ متواليات - حامد فاضل - فعلا مستحدثا كليا، بل إنه المنتمي إلى أهم تراث سردي عراقي/ عربي، "الف ليلة وليلة". حيث السارد الواحد والتأثيثات الطالعة من حقل واحد/ الصحراء، قد تستقل حكاية عن حكاية ولكن الخرج الواحد هو مصدرها لكي تتجمع ضمن وضع تجانسي واحد تحت عباءة بدوي البادية، والذئب الذي يشكل أكثر من رابط للعديد من الحكايات، حيث يتداخل الواقع و اللا واقع، المعيش/ الأرضي بالمتخيل/ المفترض، حيث من الممكن أن يشكل المتابع ساردا آخر يعمل على صياغة النص وفق تصوراته.
النص غير خاضع لتقاطعات الجغرافية، فامتدادات الأفق، واتساع النظرة يمنحان القارئ قدرة تجهيز مخيلته الفارهة، وتشكيل الإضافات السردية، فالقارئ لحظة القراءة كائن ابيض، بريء جدا، يعاين كائنات تنتمي الى وحشية المكان مرة، والى ألفة الاحلام مرة أخرى، ،او الى وسواس الكوابيس ثالثة.
ثالثا
سعة المكان والاحاطة بمكنوناته كثيرا ما تمكنان الكاتب من الذهاب بعيدا في الكشف والاكتشاف والبحث، بل وحتى الحفر والتنقيب. ومتابعة الأصول والتغيرات عبر نوع من –الاريكولوجيا.
فالحكاء لم يكتف بخزينه الجغرافي، ومعارفه، بل وضمن لعبة تعدد الحكائين يعمد إلى صناعة أكثر من حنجرة، أكثر من سارد، متحضر وبدوي يستحضرهم كشخصيات أساسية، أو طارئة، بعيدا عن دفع معلومة يمتلكها هو ليقولها سواه.
حامد فاضل كائن مدني/ حضري ليس بحاجة لأن يأخذ بلبوس البدوي ليقول ما لديه، ما من حاجة لأن يستخدم القناع لإنتاج فعل سردي مختلف، اضافة الى انه ليس من المعيب سرديا أن يستعين السارد بمصادر قادرة على إنتاج السرد، وما محاولات الكتابة التي إتاحتها كتابات ما بعد الرواية، أو الرواية داخل الرواية أو الرواية الاطارية التي تميزت بها الف ليلة وليلة أو الاستعانة بالرسائل والمذكرات وكتب التاريخ، وذاكرة المكان.
* * *
هل استنفذت شهرزاد خزينها من الأخبار والوقائع من خلال حكاياتها التي قاربت المائتين، والليالي التي تجاوزت الألف؟ هل أفرغت جعبتها من غريب القول والحديث؟
أم أن الحديث لا ينفذ و اللسان لا يتعطل والحكاؤون يتبادلون المنابر!
حامد فاضل في "الف صباح وصباح" لا يجيء لقارئه من باب واحدة، بل من أبواب ومنافذ ومسارب متعددة تشعر القارئ بالاختلاف، فكل حكاء له حكايته، وكل نساج بين يديه قماشة من نسيج مختلف، هكذا يعدد السارد شخصياته، و كائناته، من الإنسان والحيوان و الطبيعة.
ولأن الحكي فعل يعتمد التواصل لذلك فسوف يواجه القارئ الجملة الطويلة من الحكي من غير علامات ترقيم، عبارة تلد عبارة، التناسل في إنتاج الحوادث يحتم على الكاتب اللجوء إلى الجملة الطويلة، على الرغم من أن الوصف له أكثر من سلطة في صناعة الجملة القصيرة - المبتدأ والخبر. الصفة والموصوف، الجار والمجرور.
متعة الاستقبال في الصباحات تتحول إلى سلطة، قد يصاحب الذئب أو الحكاء أو الحصاة، القارئ الواقف خارج الصحراء يتحول إلى ما ينتمي إلى تأثيثات الصحراء، إلى مفصل من مفاصل تكامل الفعل الحكائي.
الكاتب الذي يتحدث إلى صاحبة الليالي يتحدث وضمن فعل الغواية إلى قارئ مجهول يتابع نسيج القول و تشيعه الطبيعة في الحجارة والعشبة وتحولات الشمس والصحراء، ورغم غواية المكان، كانت الصحراء كائنا اليفا، رغم خشونة تصرفات الحياة، إلا أن القاص يعمل على أن يقدمها على أنها أفعال ممتلئة بالليونة، والطراوة. لا أثر لشظف العيش، وصعوبة الحياة،
الصحراء بكل ممتلكاتها كائن سلس، غير منتج للخوف، هكذا يستقبل القارئ حكايات - حامد فاضل - حتى لحظة انطفاء الضوء، وظهور الذئب لم يكن الإنسان خائفا/ متراجعا، بل كان مكتشفا، يتلمس الطريق لا يعاينه، هكذا تتحول الصحراء إلى وليف، إلى ظل، وفنجان قهوة ولحظة اصغاء.
ولأن المكان والحدث اختلفا عما هو سائد في سرديات الكتاب، حيث تكون المدينة وانسانها -- سكان القص و رواده --فلا بد أن تختلف اللغة، بعيدا عن المتداول المألوف، قريبا من لغة انسان الصحراء، حيث قاموس الإنسان المستأنس بالوحشي من الكائنات، ولذلك ومن أجل وجوب اختلاف وسيلة إيصال المعلومة إلى القارئ يجد الكاتب بجانب لغة الصحراء لغة الشارع والحديد والزجاج ، ليتواصل مع الخيمة والصيد والحكاء والذئب والاوجار، في محاولة لصناعة طقس لغوي تابع للمكان الذي تدور وقائع النص على جغرافيته حيث تكون "الصحراء كتاب لا يقرأه من يجهل لغة الصحراء".

عرض مقالات: