سألت نفسي هذا السؤال: هل يمكن القيام بتفسير مجريات أحداث العالم على المعرفة الروائية؟ هل يمكن التخلي عن الفلسفة والسياسة وعلم النفس والايديولوجيا، في هذا التفسير، بعد التحولات الكبرى الجارية في القرن العشرين كنت مصاحبا بوعي ذاتي خلال النصف الثاني من هذا القرن العاصف بالحروب العالمية والاقليمية وبالقنابل الذرية والانقلابات العسكرية وهيمنة نوع جديد من البربرية والابادة الجماعية للإنسانية؟
ثم سألتُ نفسي سؤالا آخر: هل يتمكن الفن الروائي من تقديم الاجوبة عن أسباب دمار القيم الانسانية في هذا العصر المتمدد على نسيج من الصراع الدائر في مجتمعات كلها تسعى وراء السلاح أكثر من سعيها وراء التنوير؟
انهيت ، بصعوبة بالغة، قراءة ما كتبه الصديق كريم السماوي في كتابه الصادر من دار نشر بغدادية المعنون "مائة رواية ورواية".
الصعوبة واجهتني من خلال اعتماد تصميم الكتاب على الحرف الناعم بنط 12 وهو لا يتلاءم مع بصر القراء الشيوخ من امثالي. بصري يضعف ونظاراتي ليست مضبوطة، بهما تصعب القراءة فعلى المصممين الانتباه لهذا الاعتبار..! اقول الحق انني شعرت بالصعوبة نفسها أيضا، يوم كنت في عمر الرابعة عشرة وانا منغمر بقراءة العهد القديم عن سيرة النبي موسى وقصصه الكثيرة، بمعنى ان قراءة هذا النوع من الكتب يجعلك متمتعا للغاية وانت في رحلة شاقة للغاية، تتابع فيها عوالم مختلفة ، متنوعة، متناقضة، فيها ما يسر وفيها ما يفجع فيها انطباعات كثيرة.. فيها وقفات كثيرة، فيها حالات ثقافية شاملة. وضع كريم السماوي اصبعه عليها لتأشيرها، بقوة، امتلكت حضورا انسانيا واعيا وفاعلا فيها تحولات انسانية عميقة نقلت ظروفا اجتماعية موضوعية كشفتها ابداعات 101 من الروائيين العالميين والعرب، ابتداء من رواية "ذهب مع الريح" للكاتبة الامريكية مارغريت ميتشل وختاما برواية "كنت جاسوسا في اسرائيل" للكاتب المصري صالح مرسي، توسطتهما روايات عظمى ابتداء من "دستويفسكي" وانتهاء بـ "دان جون" أي ان الكاتب كريم السماوي جعل قارئه يمر بـ "مائة رواية + رواية" بكتاب واحد تضمن رؤى مكثفة عن تيارات ثقافية وفكرية ومدارس روائية وادبية وفنية مختلفة، فيها ما ينتمي الى الواقعية ومنها ما ينتمي الى الحداثة ومنها ما انتمى الى ما بعد الحداثة، لكي يفهم القارئ ويستوعب تفاصيل وتعقيدات المجتمعات المروية في هذه الروايات المختارة من قبل الكاتب كريم السماوي.
لم يكن الكتاب منهجيا ولا اكاديميا مخصصا للجامعات او لمراكز البحوث، لكنه سيظل شكلا من اشكال الموسوعات الادبية القادرة على جعل قارئها موفقا في الحصول على لقطات سريعة، على جنس وادب ولغة واسلوب مائة رواية صدرت في الماضي.
المؤلف هنا قدم المساعدة الحقة الى القراء في محاولة اكتشاف اسرار الابداع الروائي في العصر الحديث فقد وجدتُ في آراء مؤلف هذا الكتاب عاملا مهما من عوامل الاسهام في رفع مستوى الذوق الفني عند القراء المعاصرين.
ذات يوم قبل عدة سنين قرأت مقالة نشرتها جريدة الغارديان البريطانية ذكرت فيها اعظم مائة رواية عالمية، كما قرأت، بفترات متعاقبة، ما كتبه اخرون في المانيا وروسيا وفرنسا ومصر وغيرها عن كتب روائية عظيمة. كذلك كان اتحاد الكتاب العرب قد نشر كتابا عن افضل 100 رواية في القرن العشرين ذكر فيه ثلاثية نجيب محفوظ ورواية الطيب صالح ثم نشر الاتحاد عن مائة رواية عربية شملت توفيق الحكيم ويحي حقي وعبد الرحمن منيف وغيرهم.
الشيء الاساسي هنا في هذا الكتاب الجديد ان اختيارات الكاتب العراقي المقيم بالسويد كريم السماوي جاءت بمثابة اعلان عن قراءة عراقية – عربية لـ "مائة رواية + 1" متميزة بعدم القلق في اختيار اولوية هذه الرواية او تلك من حيث تأثيرها في الثقافة العالمية الحديثة او من حيث كونها مساهمة تجديدية في الفن الروائي. حتى عندما تابع موضوعات دستويفسكي فانه عرضها موضوعيا باعتبارها شخصيات من الواقعية الروسية، كما انه تابع بكثافة التكوين الفكري والادبي والفني في روايات عالمية مشهورة مثل الشيخ والبحر لهيمنغواي والارض الطيبة لبيرل بيك ورواية صباح الخير ايها الحزن لفرانسواز ساغان وغيرها.
أغرته واعجبته قراءة وتحليل ومتابعة الروايات المضيئة في حياة الناس والتمع بضوئها الكثير من المجتمعات في انحاء العالم بما فيه العالم العربي.
كان الكاتب مؤهلا ممتازا لإيجاد الصلة بين الواقع الاجتماعي وابداع الفنان الروائي. هذا ما اتاح له ولقلمه النجاح في العرض الروائي وفي تحديد علوم ومكامن وابداعات الروائيين، خاصة في الروايات المتحولة الى افلام سينمائية ، حين بسط سلطانه النقدي والاستعراضي مستقرا على عدد غير قليل من الروايات العالمية زادت على المائة برواية واحدة، مما جذبني الى صحبة كتابه متعرفا، بسرعة، على ما احتواه التراث الروائي العالمي ومصوراته النفيسة من خلال صحة تحرير وتحليل وعرض موضوعي، بقلمٍ بحثيٍ يسّرَ تمامه أمامي وأمام القراء جميعا التحاما بأحداث مروياته الرائعة ذات المعاني والدلالات، من خلال الشرح والاشارة الى الوقائع التاريخية والانسانية، الفردية والجماعية.
هذا هو مجمل سيرة كتاب مائة رواية ورواية بالحياة الروائية الحافلة بالتشعب والاحداث المتنوعة، الفردية السيكولوجية والعمومية الاجتماعية. حين كنت احس بالاكتئاب عند وصول قراءتي الى بعض النصوص او بعض الصفحات ، سرعان ما اجد نفسي بعد ذلك بموقف آخر معاكس امام المؤلفة اجاثا كريستي بروايتها "مقتل روجر اكرويد" او امام توماس مان في رواية "اسرة بودنيروك".
بإمكان كل ناقد او قارئ ان يسلسل الروايات حسب موطنها او مكان صدورها او حسب رؤيته الخاصة، التي يحملها للأدب الروائي، لكنني وجدتُ، هنا الناقد كريم السماوي ينجح بامتياز في رصد الجوانب الاساسية في شتى مجالات الفن الروائي واستخلاص بعض اسسها ومفاهيمها ونظمها، سواء في ذلك الروايات العالمية، التي تبث العتمة او النور أي في مختلف الروايات الممتدة جذورها بمكامن التجربة الانسانية والوعي الانساني.
الشيء المهم في قراءات كريم السماوي يتعلق بمسألتين:
الاولى تتعلق بـ "وطن" الرواية.. الثانية تتعلق بـ "ترجمة" الرواية الى اللغة العربية أي ان قراءاته لم تكن بلغة الرواية الاصلية. هنا كان كريم السماوي مطمئنا ان قطار أي رواية يقرأها لا يمكن ان يدهسه او حتى يخدشه بشيء لأنه لم يتجول في نواحي وامكانيات الرواية العالمية الفرنسية او الروسية او الفنلندية او الالمانية بلغتها الأصلية المنقولة الى العربية وربما العكس في ما يتعلق بمنقول الروايات العربية لنجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف الى اللغتين الفرنسية والعربية.
هل حافظت الترجمة العربية، مثلا، على الكيان الروائي الاجنبي ام ان الترجمة تقوم بتقليص الصيرورة الروائية في حالة ترجمتها، خاصة وان كتاب السماوي تناول اكثر من مائة رواية بلغات عالمية مختلفة.
لاحظت ان خطوط الصيرورة الروائية في هذا الكتاب ركزها مؤلفه بحدودٍ ظلت في ميادين العرض المكثف بتناوله الصعب لمجموعة الروايات الاكثر رواجا واوسع انتشارا في العالم وقد حافظ على ان يكون في خط الوسط لتشكيل رؤيته عن السرد الروائي بصورة تساعد القارئ على التقاط الجوهر الروائي.
كما انه استطاع بتفسيره الروائي ان يحدد قراءاته بحد مركزي واحد تقريبا هو جعل قارئ كتابه مرتبطا بالمتعة المرئية – الذهنية المنسقة لــ "مائة رواية + 1" رتبها ترتيبا آليا محددا ومتدرجا.
إذاً ماذا عن الروايات العظمى المتحولة الى فن السينما..؟ ما القول في دور التكنولوجيا السينمائية في تحويل السرد الروائي الى طقوس الفنون المرئية في صالات السينما او على شاشات التلفزيون البيتي..؟
في صالات السينما المعتمة يستسلم المشاهد لرؤية رواية متحولة الى فيلم سينمائي . عيناه مركزتان بنقطة ما من نقاط الشاشة من دون كلام غير كلام الممثلين، من دون حوار غير الاصغاء التام الى حوار الممثلين في فيلم مثل فيلم ذهب مع الريح المنقول عن رواية بنفس الاسم للمؤلفة الامريكية مارغريت ميتشل حتى لو كانت زوجة المشاهد جالسة الى جانبه في تلك الصالة فان طقوس المشاهدة السينمائية لا تجيز له الحوار الا مع نفسه، لكن الامر مختلف في مشاهدة فيلم الشيخ والبحر على شاشة التلفزيون ربما يعبر الزوج والزوجة والاولاد عن تحليل جزئي سريع او تعليقات سريعة او التعبير عن استجابات ردود افعال المشاهدة، كلا الامرين بحاجة الى تحليل شامل لمديات علاقة السينما وادواتها اللاعقلانية في الالتحام برواية مكتوبة بطريقة عقلانية.
كنت اتمنى من الناقد الروائي كريم السماوي ان يدخل الى هذا المدخل للارتفاع بمستوى القارئ حين يتحول قارئ الرواية الى متفرج وحيد امام الكاميرا السينمائية بحاجة الى وسيلة ناقد كفء مثل كريم السماوي.
في الختام اقول ان حضور الكاتب – الناقد كريم السماوي في هذا الكتاب كان عميقا في تصوراته عن الكون الروائي المتسع بسرعة مذهلة بهذا العصر. ارجو ان يسمح لي القول انه نبتة ادبية خلاقة نمت جذورها بالصحافة العراقية والعربية حيث تأثر كريم السماوي وتفاعل مع الكتابة النقدية والاستقرائية في فنون الرواية المزدهرة ومتابعتها ، مما جعله مالكا لتيار فكري مواظب منحنا من خلاله هذا الكتاب اللامع حيث جمعت صفحاته روافد عميقة ووافرة عن الادب الروائي الخلاق.

عرض مقالات: