توفّر هذه الرواية للكاتب نزار عبد الستار منافذ نقدية ثرة.. منها المنفذ التاريخي المثبّت رقميا على طول جسد الرواية، مثل الإشارة المروية على الخطوط العامة التي تعلن عن المسافات الجزئية التي تتكون منها المسافة الكاملة بين بغداد والبصرة أو بغداد والموصل، على سبيل المثال.
(*)
السارد العليم هنا برتبة مؤرخ، روائي وليس مؤرخا تاريخيا فالأول لا يشتغل التاريخ تاريخيا بل روائيا ومبأرا ً، فالحدث في غواية التروية ليس كما وقع فعلاً، بل سيتم تنضيده ضمن نظام وآلية سرد ينتقيها السارد العليم الذي يرى ويسمع ويرصد ويعلن من خلال وجهة نظره هو: في السطر الأول من الصفحة الأولى نقرأ: "منذ أن مرّ بها الإمبراطور الروماني تراجانوس سنة 116، إلى أن بدأت الحرب العالمية الأولى، وبلدة كرمليس منقطعة عن المفاخر"، ما بين القوسين علامة مروية شفيفة الشفرة: ان مسرح أحداث الرواية، قرية مهمشة، مسبّتة في سبات عميق وبشهادة الخوري سالم قهوجي بخصوص كرمليس "نحن بلدة صغيرة وبسيطة. كل ما نحلم به هو ألاّ تأكل الآفات مزروعاتنا، وألا تمرض مواشينا، وألا يقل الخبز عن عدد الأفواه"
(*)
أحيانا تكون سيرورة التاريخ في الرواية رجوعيةً كما هو الحال حين يصف السارد ثورة 14 تموز 1958"لأن الحكومة، منذ انقلاب عام 1958" أو في تناوله وجيز سيرة السيئ السمعة أبلحد حيث يعود السرد إلى سنة 1914، ثم يعود إلى سنة 1959 من خلال سيارة بهنام البيك آب. يتوقف عند سنة 1966حيث الطبخة الثلاثية "بدت العلاقة بين الشركاء الثلاثة.."أبلحد، والأمريكي ساس، والوجيه بطرس كنّي"، وتستمر سيرورة السرد بتدفقها وسخرياتها وجهوياتها المتعددة، وسرعان ما يخبرنا السارد برقم تاريخي جديد: في تموز من عام 1987 كثرت ملاحظات ياسمين وأوامرها، وبات حنّا يقضي وقتا طويلا في المطبخ". الحدث عادي جدا، وذريعة سردية ضعيفة، لكن في الهامش ملاحظة إنسانية تستحق الاعتبار "كثرت ملاحظات ياسمين" لإخبار القارئ بالزمن الروائي. ثم يتراجع الزمن "رغم مرور خمسة أشهر على تاريخ 31 آثرت كليّة الآداب في جامعة الموصل عدم ترك 1987 يمضي دون الاحتفاء بمرور قرن على ولادة الشاعر الفرنسي سان جان بيرس، 193".. ما يحدث من ضجة حول ظهور القديسة يوليانا، يوجزه الفاضل نوئيل يلدا.. بقوله "إنّ الأمر أخطر من نكبة طاعون 1830".. نلاحظ هنا أنّ الرواية مشروطة بتثبيت التاريخ رقما وما بين القوسين حول الطاعون يحيل القارئ النوعي إلى خارج النص وتحديدا للتاريخ المحلي لمدينة الموصل حصريا.. وفي هذه الإحالة ثمة إيماءة لطيفة، ثمة فاصلة بين الأنا اليومية والأنا المبدعة التي أنتجت رواية يوليانا، فهي رواية تتغذى تغذية تاريخية ثم تبتدع جهوية أدبية جديدة.. لكن الوثائق التاريخية ليست بمرتبة الأمالي، فهذه الوثائق تم "شطفها" بمياه السرد الروائي الفكه والشيّق.
(*)
تتمفصل "يوليانا" في ثلاثة فصول، في كل فصل يستقبلنا عنوان، بمثابة خلية موقوتة للفصل كله:
(1) "
يفشل ججو في الهجرة إلى أمريكا ولكنه ينجب حنّا وروارينا ويرى يوليانا مجددا في الموصل"..
(2)
يتعذب حنّا كثيراً ويفقد طريقه، لكنّه يرى يوليانا أخيرا.
(3)
يوليانا المملؤة رجاءً
وعنوانات الفصول، تعيدني إلى عنوانات سرفانتس في روايته "دون كيخوته".
(*)
الهامش المجتمعي يجسده ججو الإنسان غير السويّ صحيا وعقليا وجسديا، أما الهامش الديني فهو يوليانا، وحده ججّو من كان يواسي يوليانا من خلال تقبيله رخام قبرها الكاذب وهذا القبر من سرديات الكذب الروحي المبثوث في معظم المؤسسات الدينية بوعيها التجاري، الجماهيري "أهالي كرمليس يتوهمون امتلاكهم عظام القدّيسة بربارة وخادمتها يوليانا". ما بين القوسين ليس من السرد الجمعي للأهالي، بل من أمالي السرد الكنسي في أنظمة الوعي لأهالي كرمليس ثم يأتي السرد الغبي، العفن، المتعالي الكولونيالي بمنطقه الأرسطي المستنبط جغرافياً، ليؤكد عائدية الموصل الى تركيا! وهذه عينة، عفنة.. "وبما أنّ هذا يتعارض مع وثائق خط بروكسل، والقديسة وخادمتها، وفق ما نؤمن، ولدتا ودفنتا في منطقة أزمير في الأناضول، أوائل القرن الثالث الميلادي، فإن اعتقادهم يُعد جنوحا خرافيّا، وميلا عاطفيا مؤثراً يرجّح عائدية الموصل والبلدات التابعة لها إلى تركيا لا العراق".. والتعالي الثاني سيكون حين تصل من روما مع حارس الذخائر المقدسة "عظمة حقيقية بطول ثلاثة سنتمترات تعود لجسد القدّيسة بربارة مأخوذة من الأماكن الصحيحة ومرفقة بشهادة ضمان وعليها ختم الكاردينال باسيليوس النائب العام لقداسة البابا" حتى الاستشهاد يخضع للتراتبية الطبقية، وسيكون الإنصاف على يد المعاق ججّو الذائد عنها في قوله إلى شمونيا، حين تسأله لماذا لا يقبل قبر يوليانا ولا يقبل قبر القديسة بربارة "أنا أواسيها، فقد نسيها البابا، ولم يرسل إليها عظمة من جسدها كما فعل مع القدّيسة بربارة. لقد جلبوا عظمة من جسد بربارة من الأماكن الصحيحة، ولكن لا أحد انتبه إلى أن قبر يوليانا بلا ذخائر مقدسة. لا أحد فكّر بأن يعيد إليها شيئا من جسدها الجميل المقدّس رغم أنها هي أيضا آمنت بالمسيح، وقتلوها لأنها رفضت العودة إلى وثنيتها. لا أريدها أن تحزن بسبب هذا".
(*)
والأمريكان: مستعمرون، مستثمرون في كل أرض ٍ ينثرون الهمبرغر والعولمة والمواطن العادي لا يميز بين عمل وعمل وبشهادة صويلح "العمل هو العمل، سواء في هدم البيت أو باستخراج أو في أي مجال آخر - عبد الرحمن منيف، التيهمدن الملح" كان ذلك في أوائل القرن العشرين لكن في القرن الحادي والعشرين صارت بلاد الحضارات فريستهم.. من جراء بطل الحروب والمقابر الجماعية والمقاتل نيابة عن أمة الرسالة الواحدة.
(*)
يوليانا: تعويضا عن المفتقد في حياتنا الراهنة ونحن مغمورون بـ "المراقبة السائلة" وبشهادة الفيلسوف زيجمونت باومان أن المجالين الافتراضي والاتصالي تحت رقابات مجهولة يجسدها ثقب تقني قادرُ على شفطنا قبل أن يرتد إلينا بصرنا .يوليانا تريدنا أن نرى السماء بعيون الطيور.. تريد شعرنة حياتنا وصيانة الطفولة التي في أعماقنا.. وبشهادة يوليانا وهي تخاطب ججّو.
(*)
شركة الاستثمار، الاستعمار.. الزراعية الأمريكية العراقية، عرفت كيف تغوي قرية منسية مثل كرمليس المهمشة: "فقد سلب الكازينو عقول الرجال الذين أخذ الكسل يظهر عليهم صباحاً بسبب السهر وشعوذة الحداثة التي يبثها متجر شركة ساس، وعادت الكنيسة تشكو من قلة المؤمنين وعسر التبرعات".
(*)
أثناء قراءتي الرواية رأيت ُ تعايشا سلميا مع روايات أخرى. فحين يخبرنا السارد المتحكم بسيرورة الرواية أنّ عائلة بنيامين "مرّت بحقبة كانت العاهات فيها تتكرّر في العائلة مخلوطة بالجنون، والفضائح الساخرة" هذا المقبوس الروائي زجنّي في "دربونة الشوادي"، أعني "آل عبد المولى" في رواية فؤاد التكرلي "المسرّات والأوجاع".. فعبد المولى مؤسس العائلة "كان معروفا بجسده القصير المتين وبخلقته الغريبة، فهو أقرب الى القرد منه الى الإنسان.. كان قصيراً طويل الذراعين بأنف أفطس وعينين واسعتين جاحظتين وكان فمه مشقوقا بغير براعة، بحيث تبرز أسنانه الكبيرة الصفراء عند أول محاولة منه لتحريك شفتيه، لذلك كان صموتا، وكان أبناؤه من بعده وأبناء أبنائه صوراً مشوهة ً أو محسّنة قليلاً من هذا النموذج الباهرة".
(*)
هذه ثاني رواية عراقية للفكاهة فيها فاعلية عالية الدلالة للمتابعة. الرواية الأولى هي رباعية "أبو كاطع" شمران الياسري. قرأتها أثناء صدورها الأول وفي سنوات الضنك العراقي عدت اليها مرتين ..ف "يوليانا" للفكاهة مذاق لذيذ خصوصا ونحن نعاني ضنكا عراقيا يرفض التقاعد وهذا هو المنفذ الثالث في الرواية وسأقتطف عينات منه:
* "
أنّ مواقيت السماء ليست على هوى ساعات الناس، والمعجزات لا تتحرّك بسرعة ٍ مثل أفلام شارلي شابلن".
* "
كانت ملامح القسّ يوسف مركّبة لتوحي بالامتعاض الدائم، وكأنّه عاد للتو مهزوماً من معركة مع الإسكندر المقدوني".
* "
في الحرب تتغيّر الكثير من الأمور.. لا أمان في هذا الزمن الأغبر، فحتّى الأشجار يمكنها العمل في الجستابو".
وقبل أن يغادر ججّو الكنيسة، سيقول لشمونيا (كوني قريبة منه.. يبدو أنّ القسّ يوسف أصيب بالروك أند رول".
وحين يري القس أنّ السينما لا تخدم العقيدة المسيحية، تجيبه الراهبة تيما:(أرجو ألا ترهق نفسك كثيرا في محاربة الشيطان كي لا تقع في خطيئة كره السينما".
*
أقتطف هذه الحوارية القصيرة بين الداهية أبلحد وججّو، ولنتمعن في جواب ججّو.. أبلحد: "لهذا السبب خلق الله لنا أمريكا كي نهاجر إليها الفقير يصير ثرّيا، ويهاجر إليها الفاشل في الشموسيّة ليصبح قدّيسا"، فيتساءل ججو "من يفشل في إصلاح كرمليس كيف له إصلاح أمريكا؟" لكننا سرعان ما نقهقه ونحن نقرأ هذه الحوارية بين ججّو والقس يوسف، حين يخبره ججو أن شعب مدينة ديترويت أرسلو رسالة إلى أبلحد "يقولون فيها إنهم بحاجة إلى قدّيس" وحين يلاحظ اشتعال الغضب في وجه القس يوسف يقول ججو متشككا "أنا لا أصدق أبلحد.. كيف يفعلون ذلك وفيهم القديسة بريجيت باردو".
*
حين تخبره أمه أنه سيغادر قرية كرمليس ويتوقف في الموصل ليتزوج تيريزا، يسألها ججو
-
من هي تريزا.
ردت مبتسمة: بريجيت باردو أيّها الغبي.
*
حين يبالغ الفاضل يوئيل يلدا في إظهار الفرح: "إنها بركة القدّيسة الشفعية، وحب الناس لبلدة الرّب كرمليس" هذا يستفز شمونيا التي صار اسمها رينو فترد عليه وهي تمسرح هيأتها حيث تعتدل وترفع رأسها وتخاطب الفاضل يوئيل: "كرمليس ليست بلدة الربّ.. الربّ يعيش في باريس"، ما بين القوسين يجسد عنف قوة الرأسمال المالي الذي جاء لهذه القرية ليستعملها له ضرعا اقتصاديا ثراً.

عرض مقالات: