تساؤلات تطرح نفسها حول الدولة:

هل الدولة موجودة على الدوام وفي كل الازمان؟

وهل يرتبط ظهور الدولة بانقسام المجتمع الى طبقات متناحرة؟

وهل تمثل الدولة السيادة الطبقية للطبقة الاقوى اقتصاديا؟

وما هو موقف الماركسية من الدولة؟

وما العلاقة بين الدولة الريعية ذات الاقتصاد الريعي وقيام الدولة المدنية الديمقراطية في العراق؟

يمكن القول ان الدولة الريعية في العراق ذات الاقتصاد الريعي الوحيد الجانب أحد معوقات قيام الدولة المدنية الديمقراطية ما لم يتم تفكيك تلك الدولة الاستبدادية المهيمنة على كل شيء والتي تمنع تحقيق التقدم وبناء المستقبل.

لم تكن الدولة موجودة في كل زمان وانما ارتبط ظهورها مع انقسام المجتمع الى طبقات، فهي قوة نشأت في المجتمع ولكنها تضع نفسها فوقه وتنفصل عنه اكثر فأكثر، وتحتكر الطبقة الحاكمة السلطة وتسيطر على وسائل العنف فيه. فالمجتمع البدائي مثلا الذي ساد في عصر ما قبل التاريخ لم تكن هناك دولة تحكمه حيث كان المجتمع البدائي عبارة عن مجموعات بشرية تعيش في الكهوف ويعتمدون على الجمع والالتقاط. وبعد اكتشاف النار من قبل الانسان القديم وتمكنه من صنع القوس والسهم والرمح والتي ادت الى زيادة قدرته على ممارسة النشاط الاقتصادي وظهور فائض انتاجي وزيادة خبرته. ثم عرف الانسان القديم الزراعة التي مكنته من الاستقرار وظهور القرى دون ان تكون هناك معالم لظهور الدولة. وكان المجتمع البدائي يعتمد على مجلس من كبار السن العاجزين عن العمل في تنظيم مهماته وتقسيم العمل بين المجموعات البشرية وحل مشاكلهم وكان العمل جماعيا ونجم عن ذلك ظهور الملكية العامة المشاعة للأرض وما عليها ولباقي وسائل الانتاج البسيطة. وادى ظهور الفائض في الانتاج الى امكانية التبادل مع الجماعات البشرية المجاورة في الحيوانات والثمار. ثم تطورت ادوات العمل الخاصة وظهور السكن الخاص وملكية الارض وزراعتها ما ادى الى ظهور الملكية الخاصة واسهم هذا التطور في تقدم المجتمع البدائي وانتهائه في نفس الوقت حيث بدأ انقسام المجتمع الى فقراء وأغنياء وظهور استغلال الاخرين وامتلاكهم كعبيد، وهذا اسهم في ظهور نظام اقتصادي جديد اكثر تعقيدا يعرف بنظام الرق.

من هذا نستنتج بأن الدولة وحسب النظرية الماركسية ليست نظاما حتميا ولازما لوجود الجماعات. وكما يقول انجلز، فالدولة لم توجد منذ الأزل وانما ظهرت الدولة وسلطتها عندما بلغ التطور الاقتصادي في المجتمع درجة اقترنت بالضرورة بانقسام المجتمع الى طبقات حيث يعتبر مجتمع الرق بداية انقسام المجتمع الى طبقات وظهور ما يعرف بالعبيد ومالكي العبيد وظهور الاستغلال الطبقي. فالدولة اذاً هي النظام الذي يحمي مصالح الطبقة المسيطرة اقتصاديا كما يرى ماركس. فاذا وجد مجتمع خال من الطبقات والتناقضات فإنه سوف ينعدم وجود الدولة كنظام.( 1).

الدولة العراقية:

وهذا الأمر ينطبق على العراق فقيام الدولة فيه كانت مرتبطة بالطبقة الغنية من البرجوازية والاقطاع المرتبطة مصالحها بالاستعمار البريطاني الذي احتل العراق  خلال الحرب العالمية الاولى عام 1914 الذي شجع الاقطاع ولم تكن لهذه الدولة التزام بحقوق الانسان والمواطنة والقوميات والحياة الديمقراطية الحقيقية غير المزيفة، ما ادى الى سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والذي قاد في النهاية الى اندلاع ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958  والتي حققت عدد من الانجازات المهمة للشعب العراقي خلال عمرها القصير، وتمت الاطاحة بها بانقلاب شباط الاسود عام 1963 بحكم فاشي معادٍ للشعب ومعادٍ للديمقراطية .

منذ عام 1927 تم اكتشاف النفط في العراق حيث سيطرت الشركات النفطية الاحتكارية على نفطه وبدأ بزيادة الانتاج النفطي ومنذ ذلك التاريخ تميز الاقتصاد العراقي بأنه اقتصاد ريعي وحيد الجانب اعتمد كليا على تصدير النفط الخام وكان في السابق يعتمد على ريع القطاع الزراعي وهيمنة العلاقات الانتاجية شبه الاقطاعية ثم احتل القطاع النفط  منذ العقد الخامس من القرن العشرين والى اليوم المكون الرئيس للناتج المحلي الاجمالي الى جانب تهميش الصناعة وضعف مشاركة الصناعة التحويلية بتكوين الناتج المحلي الاجمالي وتهميش الزراعة، ما قاد الى ان تكون الدولة العراقية دولة ريعية بامتياز تتميز بالسمات السلبية التي تميز الدولة الريعية والمتمثلة في  :

  1. الاقتصاد الريعي الوحيد الجانب .
  2. الاقتصاد الاستهلاكي .
  3. الاقتصاد الاستيرادي .
  4. تبعية الاقتصاد .
  5. تدهور البنية الطبقية .
  6. علاقات انتاج متخلفة .
  7. تفشي الفساد بأنواعه.
  8. الاستبداد السياسي والتخلف الاجتماعي وغياب الديمقراطية وتغييب الحريات وحقوق الانسان والقوميات ..
  9. تهميش المجتمع والخضوع للمراكز الرأسمالية المتقدمة التي تقف حائلا دون تخلصها من التخلف ووحدانية الجانب الاقتصادي وتكريس الطابع الريعي وبسبب العائدات المالية النفطية الكبيرة الناجمة عن بيع النفط الخام في الأسواق العالمية، لم تبذل الجهات الحاكمة الجهود الضرورية اللازمة لتغيير بنية الاقتصاد العراقي والتخلص من وحدانية الجانب في بنية الانتاج المحلي، أي بقي طابع الاقتصاد الوطني استهلاكيا غير انتاجي والذي ينعكس بالتالي على بنية المجتمع الطبقية. ولم تعمل الجهات الحاكمة على توجيه العائدات المالية النفطية صوب التنمية الزراعية وتنمية الصناعة التحويلية وتطوير التعليم والبحث العلمي والحياة الثقافية الضرورية، غير ان القوى المتنفذة قامت بتوجيه هذه العوائد صوب استيراد السلع الاستهلاكية والترفية والتسليح والعسكرة لحماية نظامها السياسي وامتيازاتها واعتمدت على استيراد كل شيء لغرض سد احتياجات السكان الاستهلاكية المتزايدة بزيادة تعدادهم، الى جانب تفشي الفساد المالي والاداري الذي قضم حصة كبيرة من هذه العوائد. وفي ظل الاقتصاد الريعي الاستهلاكي الاستيرادي انتعشت حياة ومعيشة فئات قليلة من السكان المرتبطة بالدولة واحزابها الحاكمة في حين بقيت فئات اخرى من الشعب وهي تمثل الاغلبية تعاني الفقر وشظف العيش والبطالة والامية وازمات السكن وغيرها. فاقتصادنا الوطني بهذه المواصفات عاجز عن تحقيق التنمية والتشغيل وتغيير بنية الناتج المحلي الاجمالي وهو يمثل الجزء المتخلف والتابع والمستنزف في موارده الاقتصادية وامواله من النظام الرأسمالي وهذا الوضع يتعارض مع اقامة الدولة المدنية الديمقراطية، ما يتطلب التغيير واصلاح الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.

يعتبر الاستبداد صفة الدولة الريعية وسلطتها السياسية والتي في ظلها تغيب العدالة الاجتماعية وحقوق المرأة وحقوق الانسان والقوميات. ( 2)  في ظل هذه الأوضاع المزرية للدولة العراقية وتخلفها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، هل يمكن اقامة الدولة المدنية الديمقراطية؟ أم أن ذلك يتطلب شروطا ومعايير لإقامتها؟

يدور الصراع اليوم حول بناء الدولة العراقية وهويتها فالبعض يريدها دولة مكونات، دولة طائفية تتخذ من الدين ستارا لممارسة نشاطها واستغلالها، والبعض الاخر يريدها دولة مدنية ديمقراطية اتحادية علمانية يفصل فيها الدين عن السياسة اضافة الى الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتقوم على مبدأ المواطنة بعيدا عن المحاصصة الطائفية، دولة غير قائمة على اقتصاد وحيد الجانب يتنوع فيها الاقتصاد بتفعيل الصناعة والزراعة والتعدين والسياحة واقامة الصناعات البتروكيمياوية والصناعات النفطية.

ان اقامة الدولة المدنية الديمقراطية تتطلب تغيير الأوضاع والتخلص من الاقتصاد الريعي والاستبداد والطائفية. (3 ) ..

هناك تعارض بين الاقتصاد الريعي الذي تتميز دولته بالاستبداد والاستغلال والاستهلاك والتخلف، وبين اقامة الدولة المدنية الديمقراطية، ويعتبر الاقتصاد الريعي بسلبياته المتعددة احد معوقات اقامة الدولة المدنية الديمقراطية، فقيام هذه الدولة يتعطل بسبب غياب مقوماتها الأساسية:-

  1. المساواة بين المواطنين.
  2. المشاركة السياسية.
  3. وجود مجتمع مدني فاعل من خارج اجهزة السلطة.
  4. عدم اضفاء القدسية على الحاكم. (4).

وهذا لا تحققه الدولة الريعية المستبدة.  ان تحكم الدولة بالاقتصاد الريعي (الدولة الريعية) يعتبر من العوائق المهمة امام تكوين المجتمع المدني، فالاقتصاد الريعي يعتمد بشكل أساس على الريع الذي يأتيه من الخارج وهو من أهم القواعد الأساسية التي تستند عليها الدولة في استبدادها السياسي واحتكارها للاقتصاد وهيمنتها على المجتمع ككل ومنع تحقيق المجتمع المدني لما يعطيها هذا الاقتصاد من قوة للدولة الريعية. فالدولة الريعية تتحكم بها فئة محدودة من المجتمع تحصل بشكل مباشر على عناصر الثروة (الريع الخارجي) ويتم تركيز القوة الاقتصادية بيد الحكومة التي يمكنها من الاستحواذ على السلطة السياسية وتقديم المنافع للأفراد والاحزاب المرتبطين بها بعيدا عن مبدأ المواطنة والمساواة. وفي الدولة الريعية هناك سيطرة قسرية للمجتمع السياسي على الاقتصاد وما يترتب على ذلك من تبعية المجتمع ككل لعلاقات القسر السياسية التي تملك الدولة جميع خيوطها وهو ما يتنافى مع الشروط التاريخية الخاصة بتكوين المجتمع المدني في الغرب.(5).

ان تحقيق الاستقرار السياسي والتقدم واقامة الدولة المدنية الديمقراطية لا يتحقق الا بتفكيك الدولة الاستبدادية المهيمنة على كل شيء، حيث ان تفكيكها يفتح المجال واسعا للتحكم بالراهن والمستقبل، وان الدولة الدكتاتورية المستبدة التي تمنع السيطرة على اسباب التطور والتقدم والمهيمنة عل كل مقدرات الشعب هي المشكلة الحقيقية والتي تمنع التقدم وصناعة المستقبل. لذلك فان الخطوة الاولى في مشروع التقدم هي تفكيك الدولة الظالمة المستبدة والمسيطرة على كل القدرات. (6).

وبهذا الصدد فقد أشار الحزب الشيوعي العراقي في مؤتمره العاشر بوثيقته الموسومة مشروع (التغيير .. دولة مدنية ديمقراطية اتحادية وعدالة اجتماعية) الى:

((ان التغيير المطلوب لن يتحقق الا عبر بناء بديل يكسر محاولات احتكار السلطة المستندة الى الهويات الفرعية واعادة انتاجها ويؤسس لوعي اجتماعي جديد وتوجه ثقافي يشكل نفيا لثقافة الاستبداد ولنزعات العودة الى الماضي المناهضة للحداثة والتنوير ويرسي الاعتراف بالآخر واحترام التنوع، وليس افضل من البديل المدني الوطني الديمقراطي اداة لتحقيق ذلك ولإعادة  بناء الاقتصاد والمجتمع والدولة على اسس جديدة تجعلها دولة مواطنين احرار وليس رعايا.)) , كما اشارت الوثيقة ايضا الى وقوف الاقتصاد العراقي بفعل الازمة العميقة التي شملت البناء السياسي والمؤسسي للدولة في مفترق طرق، ففي حالة استمرار الأوضاع ومسارات السياسة الاقتصادية وتوجهاتها على ما هي عليه سيتعمق العطل في الاطار الاقتصادي  العام للبلاد من حيث تعمق الطابع الريعي والاحادي للاقتصاد الوطني  وتخلف الصناعة والزراعة وغياب التنمية المستدامة... واكدت الوثيقة على انه لا يمكن انجاز تنمية مستدامة في غياب الرؤى والاستراتيجيات والسياسات الموحدة للدولة في المجال الاجتماعي – الاقتصادي وفي ظل تردي البنى التحتية اللازمة... وفي غياب مستوى مناسب من الاستقرار السياسي والامني .  وتطرقت تلك الوثيقة الى ضرورة وجود سياسة اقتصادية واجتماعية تختلف عن تلك التي ادت الى ما نحن عليه اليوم يكون محورها توفير شروط تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة .... وان الطريق الى الاصلاح والتغيير الحقيقيين واقامة الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية التي تكفل العدالة الاجتماعية يتطلب نضالا متواصلا ومتراكما من اجل احداث التغيير المطلوب في موازين القوى السياسية لصالح اصحاب مشروع التغيير وانصاره. ( 7 ).

فإلى التغيير من اجل الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية والعدالة الاجتماعية.

المصادر:

ــــــــــــــ

(1)  مي حسين عبد المنصف / النظرية الماركسية ونشأة الدولة / الحوار المتمدن العدد 2028 في 31/3/2013

(2)  د. كاظم حبيب ( الاقتصاد السياسي للفئات الرثة الحاكمة في العراق ).

(3) هاشم نعمة / الدولة المدنية الديمقراطية.. مقوماتها ومعوقاتها / الحوار المتمدن 18 /5/2013.

(4)  مركز كارنيغي للشرق الأوسط /ازمة الدولة في الوطن العربي / ندوة .

(5) ليث زيدان / عوائق تكوين المجتمع المدني في الدول العربية / الحوار المتمدن في 30/5/2007 .

(6) محمد محفوظ / الدولة المدنية وصناعة المستقبل في العراق / في 29 /9/2016.

(7)  الحزب الشيوعي العراقي / المؤتمر الوطني العاشر / وثيقة مشروع (( التغيير .. دولة مدنية ديمقراطية اتحادية وعدالة اجتماعية )) بغداد 1 – 3 كانون الأول 2016 .