ارتبط الشاعر د. حسن البياتي بعلاقة أخوية عائلية أكاديمية عميقة بالباحث الأكاديمي الراحل الأُستاذ الدكتور علي جواد الطاهر، الحاصل على دكتوراه الدولة من جامعة السوربون – باريس 1953. علاقة متواصلة على مدى أربعة عقود "استاذاً، صديقاً، زميلاً تدريسياً، وداعية دؤوباً إلى اعتناق فن الترجمة"، جمعت بينهما مواقف إنسانية راقية، ومشتركات الثقافة، فتألقا في مجالات الأدب المتعددة، لا سيما حقل النشاط الترجمي المتعدد الجوانب، فأصبح كل واحد منهما موسوعة ثقافية معرفية، فتمكنا من تجاوز أسوار المحلية، فتوسعا في برامج المشاريع الثقافية الأدبية العربية والدولية.
وبحكم الخبرة الواسعة الدقيقة للدكتور حسن البياتي في عالم الترجمة، ومعرفته لأكثر من لغة، وإطلاعه على كل ما كتبه ونشره الدكتور الطاهر، من مؤلفات وكتابات ومخطوطات ذات علاقة بنشاطه الترجمي، ومن باب وفاء التلميذ لإستاذه، المتوفى في 09/10/1996، في إحياء تراثه المعرفي والترجمي، واحتراماً لسيرته العلمية الراقية المتميزة، ظل البياتي أميناً على ذكراه معترفاً بجميل عطائه، فعاهد نفسه بأن يدل القراء على صرحه الترجمي، فقرر الخوض بهذه التجربة المتفردة في جمع كل نتاج الدكتور الطاهر الثقافي الأدبي الإبداعي المتعلق بعلم الترجمة بهذا الإصدار الراقي: "الصرح الترجمي للدكتور علي جواد الطاهر".
الشيء المميز في هذا المؤلف تناغمه مع مكانة الأستاذ الطاهر الأخلاقية، ومدى إلتزامه النقدي بالمنهج العلمي، وتمكنه من مادته العلمية في مزاوجة القديم والحديث بروح فنية علمية منسجمة طابعها الدقة في البناء والتنوع بالإتجاهات الأدبية النقدية.
اهتم الدكتور الطاهر بالترجمة باعتبارها أحد مظاهر نشاطه الأدبي المحببة له، لذا امتاز نتاجه الإبداعي المترجم بالتماسك والجودة، وباسلوب راقٍ جميل، وبلغة حيوية سليمة، لأنه كان حقاً مؤمناً بأن الكتاب المترجم بدقة يسهم في بناء الشخصية الأدبية، ويرى بأن الترجمة عامل أساس في حضارات العالم، ولكن من المؤسف أن كل من كتبوا عن الفقيد لم يتطرقوا إلى دوره المميز في علم الترجمة، وهذا إجحاف بحقهِ. وبذلك تبلورت مجموعة دوافع أسهمت في أن يرى هذا الصرح الترجمي النور، وأن يصل إلى أكبر عدد ممكن من محبي الأعمال الإبداعية للفقيد.
صنف البياتي هذه الدراسة العلمية إلى خمسة أركان مهمة لتغطية مسيرة خمسة عقود من العطاء المعرفي الثقافي ذي الأبعاد الإنسانية، حقل الترجمة الأدبية التي انفردت وتشعبت بها هذه الدراسة، مقرونة بنموذج من إبداعات الدكتور الطاهر ليؤكد مصداقية مادة الركن المذكور. أول هذه الأركان التي ارتكز عليها البياتي وتناولها بحرصٍ هو الإسهامات الإبداعية التي أنجزها الطاهر من اللغة الفرنسية، نشر قسماً منها، واحتفظ بقسم منها على شكل مخطوطات، كانت تحمل طابعاً أكاديمياً وبمنهجية عالية مثلت جزءاً مهماً من أهدافه الأساسية التي خصص لها وقتاً وجهداً كبيرين لكي تكون بمستوى رفيع. والركن الثاني للدراسة ارتكز على روحية الطاهر في حث المترجمين وأصحاب الاختصاص على الترجمة، مستخدماً كل الوسائل المتاحة من الكتابة في الصحافة والاتصالات الهاتفية واللقاءات الشخصية وغيرها مشجعاً ومستنهضاً فيهم الهمم بعدم التوقف عند ما قدمه السابقون من ترجمات، بل بضرورة رفد القارئ بخلاصة الفكر العالمي، أي ترجمة خلاصة ثمرة جهود الباحثين الذين احتلت آثارهم مكان الصدارة في الفكر الإنساني، وذلك لقناعته التامة بأن الترجمة تشكل الأساس في حضارات العالم، والكتاب المترجم الذي يجمع ما بين الجودة والتنوع، له أهميته في صقل الشخصية الأدبية، ولاسيما المأخوذة من روائع التراث العالمي التي أغنت لغتنا العربية بمختلف المجالات.
ونلمس مصداقية هذا التوجه في الركن الثالث من خلال المتابعة المتواصلة لأي نتاج مترجم من مختلف اللغات إلى العربية، منذ زمن مبكر، ما كان منه مقروءاً أو مرئياً أو مسموعاً، فيتعرفه ويتبني مهمة تقويمه وتصويبه ثم يُعرف به. وقد كان حريصاً على حضور الأعمال المسرحية المترجمة إلى العربية من مختلف اللغات، وقد أشاد بجهود القائمين على تمثيلها وإخراجها، وعبر عن إرتياحه لمجموعة من المترجمين المبدعين، وبجهود المؤسسات الراعية لهذا التوجه بنشر النتاج العالمي الراقي سواء في العراق أو في الوطن العربي.
لقد أجرى الدكتور الطاهر مراجعة للنتاج الأدبي المترجم إلى اللغة العربية ومتابعة لما يقرب من ثلاثين كتاباً مترجماً، ذكرهم البياتي بوضوحٍ في الركن الرابع تحت اتجاهين أساسيين، الأول يضم كتابين مترجمين من اللغة الفرنسية، تم تكليفه رسمياً من دار الشؤون الثقافية ودار المأمون للترجمة والنشر بالمراجعة، أما الكتب الباقية المترجمة عن الفرنسية والانكليزية والروسية والألمانية فقد تناولها بمبادرة ذاتية، وقد ورد ذكر بعضها في كتابه "الباب الضيق"، وكتابه "وراء الأفق الأدبي – مقالات"، وقد قدم هذه الكتب موثقة توثيقاً مكتبياً علمياً، وبجهود غير إعتيادية ثبت فيها ملاحظاته الترجمية واللغوية والأسلوبية، بما فيها عودته إلى النص الأصلي الذي نقلت منه، حينما يشك في صحة الترجمة، وغيرها من الأمور التي تَنم عن اهتمامه وسعة اطلاعه على موضوعات إبداعية متنوعة، وحرصه وشغفه بهذا الفن الراقي.
أما الركن الأخير من الصرح الترجمي المحبب للدكتور الطاهر، فهو قائم على توضيح وتدوين فلسفته ورؤيته لما يجب أن تكون عليه الترجمة وما يتصف به المترجم والعمل الترجمي، تجسدت هذه الرؤية الفلسفية بروحية علمية عالية نابعة من خبرته وتجربته الشخصية الطويلة وتوجهاته ومعتقداته التي آمن بها، مؤكداً بأن المترجم عليه أن يكون مالكاً ناصية اللغتين، المنقول منها والمنقول إليها، وذا شعور حاد بالمسؤولية، ومتوخياً الدقة في ما يترجم، ملتزماً بروح النص بعيداً عن الحرفية المعجمية الصرف، أي أن يبدع ويتفنن في البناء والصياغة، وأن يمنح الترجمة قوة خاصة تسهم في جعل العمل المترجم قريباً من الأصل. وهو لا يحبذ اللجوء إلى الترجمة من لغة وسيطة بل ضرورة النقل من اللغة الأم، ويندد بالترجمات التجارية، كاشفاً عن زيف المترجمين التجاريين وما يأتون به من تزوير. ويخلص إلى أن الترجمة لغة وفن لا تخلو من الصعوبة وتحتاج إلى نفس طويل من الصبر والمراجعة المتواصلة للمادة المترجمة حتى يكتمل العمل الإبداعي قبل أن يخرج إلى العلن.
وأخيراً، لابد من القول بأن قيمة هذا الكتاب ليست فقط بما يحويه من مادة علمية رفيعة، بل بالجهود الطيبة التي بذلها البياتي في تجميع هذه المواد ودراستها وتصنيفها وإخراجها بهذا الشكل الإبداعي.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا