بعد الحرب العالمية الثانية أصبح الحديث عن قضية حقوق ألإنسان أمرا مألوفا سواء على الصعيد العالمي أو الاقليمي او على المستوى الداخلي ،خاصة وان حماية حقوق الانسان باتت محورا هاما في الحياة الدولية المعاصرة ،وغاية من غايات النظام الدولي. 
والواقع ان معرفة مدى احترام الدولة لحقوق الانسان اصبح متوقعا على مدى اعلان تلك الدولة عن هذا الاحترام أولا من خلال النص على مختلف الحقوق الإنسانية في قوانينها الداخلية وفي مقدمتها الدستور، ومن ثم من خلال العمل على الاحترام الفعلي لتلك الحقوق ووضع ضمانات كافية لذلك، هذا على المستوى الداخلي أما على نطاق أوسع فان احترام الدولة لحقوق الانسان يتجلى من خلال العمل على مسايرة الجهود الدولية لتعزيز وحماية حقوق الانسان ،سواء من خلال المشاركة في إعداد الاتفاقيات الدولية وتنظيم المؤتمرات الدولية وإنشاء المؤسسات المعنية بحقوق الانسان، أو من خلال إقرار الجهود المبذولة من المجتمع الدولي في هذا المجال بالانضمام الى المعاهدات الدولية لحقوق الانسان والالتزام الفعلي بها ومساعدة المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية العاملة في مجال حقوق الانسان والتعاون معها.

ان حقوق الانسان أصيلة و عامة يتعين الاعتراف بها لكل انسان على وجه الاطلاق وفي جميع الاحوال ، لكن تقييدها لا يجوز إلا على سبيل الاستثناء ولا ينبغي التوسع به، وانما سيتم تقديره في إطار حالة الضرورة التي تسوغه، شريطة ألا يؤدي هذا الاستثناء إلى إهدار طائفة بذاتها من الحقوق. هذا و ان فكرة التقييد ببعض الحقوق والحريات يجد سندا له في التشريعات الوطنية والدولية، وذلك لكي تتاح الفرصة أمام السلطة العامة في المجتمع للتصدي بفاعلية للظروف الطارئة التي قد تستجد والتي تستلزم تدخلا من نوع خاص يتطلب شكلا خاصا من المشروعية التي تتلاءم وتلك الظروف، كذلك الرغبة في تقويم سلوك الافراد الذين يخرجون عن مقتضى القانون وتنظيم الحقوق داخل المجتمع درءا للتعارض بين حقوق الافراد وعليه فإن أصالة حقوق ألإنسان لا تعني إنها حرة من كل قيد، وطليقة من كل ضابط ،لان في ذلك إفساد ،ومن اجل تنافيه يتم تنظيم هذه الحقوق بوضع الضوابط والحقوق والقيود بين حقوق الافراد من جهة وبين حقوق الجماعة من جهة اخرى، وذلك كله من أجل ضمان تمتع الكل بحقوقهم دون التعارض أو التنازع، وإن حدث تعارض فلا بد ان يجد حلا في نصوص القانون وحكم القضاء. ان حقوق الانسان في تطور مستمر وهي ذات طبيعة متجددة وتتجدد بتطور حياة الفرد والدولة، فقد تطورت هذه الحقوق من قدرات لها طابع داخلي الى حقوق أكثر اتساعا حيث أصبحت تصطبغ بصبغة عالمية، كما تطورت حقوق الانسان من حيث أنواعها فبعد أن كانت مقصورة على عدد محدود أصبحت هناك حقوق جديدة جاءت نتيجة التطور الذي شهده العالم . من ينال حماية المجتمع يكون مدينا له مقابل ذلك، والعيش في المجتمع يقتضي حتما أن يتقيد كل فرد بخطة من السلوك تجاه الآخرين. يتألف هذا السلوك، أولا، من عدم ألإضرار بالمصالح التي يجب أن تُعتبر حقوقا إما بموجب نص قانوني صريح أو بموجب تفاهم ضمني. ويتألف هذا السلوك، ثانيا، من تحمل كل فرد نصيبه (الذي يُقَرر وفق مبدأ منصف) مما تقتضيه صيانة المجتمع أو أعضاءه من أتعاب وتضحيات. ويحق للمجتمع مهما كلف الأمر . ان يفرض تحقيق هذين الشرطين على من يحاول الامتناع عن ذلك. وليس هذا كل ما يجوز
أن يفعله المجتمع. فقد تكون أفعال الفرد ضارة بالغير أو قليلة الاهتمام بخيرهم دون أن تكون مخالفة لحقوقهم المقررة، ويجوز عندئذ معاقبة المذنب عن طريق الرأي العام لا عن طريق القانون. وحينما ينطوي أي جزء من سلوك الفرد على ضرر بمصالح الغير تصبح للمجتمع سلطة عليه .

 فالحاجة تدعو لا إلى الإنقاص بل إلى الزيادة في كل جهد غير مغرض يُصرف في رعاية خير الغير، ولكن الحب غير المغرض للخير يستطيع أن يجد وسائل أخرى لإقناع الناس بخيرهم . فالتربية تعمل عن طريق الإقناع كما تعمل عن طريق الإرغام فإذا انقضت مرحلة التربية يكون من الواجب استعمال الطريقة الأولى، أي الإقناع، في ترسيخ الفضائل التي تقصد الذات وتعنيها. والناس مدينون بعضهم لبعضهم الآخر بالمساعدة على التمييز بين الأحسن والأسوأ، والتشجيع على اختيار الأول وتجنب الثاني، ويجب ان يحفز بعضهم بعضا على ممارسة ملكاتهم العليا وتوجيه مشاعرهم وأهدافهم نحو أغراض حكيمة سامية لا حمق فيها ولا انحطاط. والشخص هو صاحب الشأن الأول فيما يختص بخيره الذاتي، ولا يمتد بشأن الآخرين فيه إلا في حالات العلاقة الشخصية القوية. وما شأن المجتمع به كفرد (فيما عدا سلوكه نحو الغير) إلا شأن جزئي غير مباشر. وحتى الشخص العادي نفسه فانه يملك من الوسائل لمعرفة مشاعره وظروفه الخاصة ما يفوق ما يملكه أي شخص آخر. ان تدخُّل المجتمع للتحكم في حكمه وأغراضه الخاصة به لا بد أن يقوم على افتراضات عامة قد تكون خاطئة، وإن كانت صحيحة فقد يسيء تطبيقها على الحالات الفردية أناس يجهلون تلك الحالات كما يجهلها أولئك الذين ينظرون إليها من الخارج فقط. في هذه الدائرة من شؤون البشر يقع مجال عمل الفردية. ففي سلوك البشر نحو بعضهم بعضا لا بد من مراعاة قواعد عامة ليعرف الناس ما يجب أن يتوقعوا. أما فيما يختص بالفرد، فان له الحق في ممارسة انطلاقه الفردي بحرية. يجوز أن يقدم إليه الآخرون اعتبارات تساعده في حكمه أو نصائح تقوي إرادته حتى ولو كان الأمر تطفلا منهم، إلا أنه هو الحاكم الأخير. وان الشر الناجم عن السماح للغير بإرغامه على ما يرون فيه مصلحته يرجح على كفة كل ما قد يرتكبه من أخطاء رغم النصح والتحذير إذا هو بقي بدون هذا الإرغام. 

لقد كان هدف الوطنيين وضع حد للسلطة التي يجب أن يتحمل الحاكم مسؤولية ممارستها على المجتمع، وهذا التحديد هو ما قصدوه بالحرية. حاولوا إرساء أسس هذا التحديد بطريقتين: الأولى هي الحصول على اعتراف ببعض الحصانات، تسمى الحريات أو الحقوق السياسية، كان انتهاكها من قبل الحاكم يعتبر إخلالا بواجبه، فإذا اقدم على انتهاكها كان في عمله ما يبرر المقاومة الخاصة أو الثورة الشاملة؛ أما الطريقة الثانية التي ظهرت بعد الأولى فكانت إقامة ضوابط دستورية بموجبها أصبحت موافقة المجتمع، أو أي هيئة يفترض انها تمثل مصالحه، شرطا لازما في بعض الإجراءات الهامة التي تريدها السلطة الحاكمة. 

لقد اضطرت السلطة الحاكمة في معظم البلاد الأوروبية إلى الرضوخ، نوعا ما، للطريقة الأولى اي الحقوق السياسية. ولكن الحال لم يكن كذلك بالنسبة للطريقة الثانية: إذ أصبح الوصول إلى هذا النوع من التحديد أو إلى إكماله حين يكون جزءا منه مؤمنا، اصبح ذلك في كل مكان الغرض الأساسي لمحبي الحرية. ولما اطمأن البشر إلى محاربة عدو بعدو آخر، وقنعوا بأن يُحكَموا من قبل سيد ضمن شروط تؤمن لهم نوعا من الحماية ضد استبداده، فانهم لم يعودوا يعملون ليدفعوا بأمانيهم إلى أبعد من هذه النقطة. ثم جاء زمن رأى الناس فيه أن ليس من ضرورة طبيعية أن يكّون حكامهم سلطة مستقلة، تتعارض مصالحها مع مصالحهم. وبدا لهم أن الأفضل أن يكون أولئك الذين يستلمون شؤون الدولة وكلاء أو مندوبين عنهم يعزلونهم متى شاءوا. وظهر أن هذا هو السبيل الوحيد الذي يعطيهم الضمانة التامة في أن لا يساء استعمال سلطة الحكم في غير صالحهم. 

هذا الطلب الجديد لحكام ينتخبون انتخابا لمدة مؤقتة أصبح تدريجيا الغرض الرئيسي لأي حزب شعبي أينما وجد هذا الحزب . وأخذ هذا الطلب، إلى حد بعيد، مكان طلب الحد من سلطة الحكام التي كانت تسعى إليه الجهود السابقة. وفيما كان النضال لجعل السلطة الحاكمة تنبثق عن انتخاب دوري من قبل المحكومين يسير في وجهته، أخذ بعض الناس يفكرون بأن الأهمية التي علقوها على مسألة تحديد السلطة نفسها كانت أكثر من اللازم، وان المسألة نفسها يمكن أن تكون مأخذا يؤخذ ضد الحكام الذين كانت مصالحهم عادة متضاربة مع مصالح الشعب. فما هو مطلوب الآن هو أن يكون الحكام متجاوبين مع الأمة وأن تكون مصالحهم وإرادتهم مصلحة الأمة وإرادتها. لن تحتاج الأمة إلى حماية من إرادتها الذاتية، وليس هناك خوف من أن تستبد بنفسها. ليكن الحكام مسؤولين عنها بطريقة مثمرة، وليكونوا عرضة للعزل من قِبَلِها، وعندها يمكن أن تمنحهم سلطات تستطيع هي أن تفرض أين يجب أن تُستعمل. وسلطتهم عندئذ ليست شيئا آخر سوى سلطة الأمة، وقد تمركزت بطريقة صالحة للتنفيذ.