إن العراق اليوم بلد لا يشبه غيره من البلدان، وفيه نظام مبتكر لا يعرفه أي بلد من بلاد الأرض . فعلى أراضيه تطغي قوى لا تطيق سماع أي شئ عن الثقافة، بالرغم من وجود وزارة بإسم الثقافة ليس لها أي حضور فاعل في الحركة الثقافية. وتخلو البلاد من أي نشاط ثقافي حقيقي مما عرفته أجيال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. بينما تزدهر الثقافة العراقية في المهجر حيث يبدع الكتاب والفنانون والموسيقيون والمعماريون والمسرحيون والسينمائيون العراقيون في مختلف أصقاع العرض.

وقد حالفني الحظ  أن إلتقي في لندن الفنان فيصل لعيبي صاحي (من مواليد البصرة في عام 1947) أحد الرموز البارزة الفنية العراقية في المهجر. وكنت أتابع عبر وسائل الإعلام دوما نشاطه الفني من معارض تقام في مختلف العواصم وأشاهد لوحاته . وجذبتني على الأخص لوحاته " الشهداء"و" المقهى البغدادي"و"واقعة كربلاء" و" النساء" خلف جدارية آشورية. كما تابعت نشاطه الإجتماعي والوطني. وقد عرفت سابقا شقيقته الفنانة عفيفة لعيبي التي درست في موسكو وتركت بعد رحيلها لوحة لا تزال معلقة على الجدار في شقة الكاتب الفقيد غائب طعمة فرمان. أن أول ما جذبني في الحديث مع فيصل لعيبي هو أنه يمنح محدثه المودة  في غير تحفظ ويكشف مكنونات قلبه بلا قيود، مما يعكس صفاء الطبع وإعتدال المزاج والصدق. ولهذا دار حديث صريح بيننا حول الفن في العراق وإبداعه خلال أكثر من ثلاثين عاما منذ أن غادر الوطن في عام 1974 بعد إشتداد وطأة النظام الدكتاتوري، فدرس في البوزار في باريس ومن ثم في السوربون ، وبعد ذلك إستقر به المقام  في بريطانيا في عام 1991.

وقد إعترف فيصل بأن كافة المناهج الفنية في المجتمع الحديث نبعت من اوروبا ومنها الفن التشكيلي والموسيقى والمسرح والرياضة وعموما الثقافة والفلسفة. كلها جاءت من اوروبا. وبعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية ظهر في العراق بعض الفنانين منهم جواد سليم الذي عمل في المتحف العراقي حيث ساهم في إصلاح بعض التماثيل. كما برز آخرون بينهم فائق حسن وحافظ الدروبي وأكرم شكري (وكان موظفا مسؤولا في المتحف أبان الحرب). والفن التشكيلي العراقي بدأ منهم وليس من عبدالقادر رسام وغيره من الفنانين الهواة الذين كانوا يرسمون لوحات جميلة حول مواضيع إجتماعية، لكنها ليست ذات قيمة فنية. إن جواد سليم بدأ برسم المجتمع، ومن هنا بدأت حركة الفن التشيكلي في العراق. ولا يجوز القول إنها مدرسة عراقية قائمة بذاتها. بل بدأ الفنانون برسم ما يحيط بهم من الاجواء العراقية والعناصر الجميلة في مشاهد الطبيعة على طريقة الإنطباعيين. وهكذا بدأت "جماعة الرواد" مع فائق حسن وإتسمت بمحاولات التوجه نحو الحداثة، ثم "جماعة بغداد"مع جواد سليم التي حاول الفنانون فيها العودة الى التراث القديم. وليس مصادفة أن قال فائق بعد رحيل جواد إنه " فقد نصفه". وظهرت جماعة " الشرق الأوسط " التي روجت للفن التجريدي وتأثر بها بعض الرسامين. كما جرت محاولات البحث عن الهوية ذات جذر ايديولوجي قام بها شاكر حسن آل سعيد ، وبدأ الحديث عن تكوين مدرسة بغداد بالاعتماد على مدرسة الواسطي. لكن لم تتكون مدرسة خاصة ببغداد.

وأضاف فيصل لعيبي قائلا : يوجد رسم عراقي يتميز عن الفن في مصر وسوريا . لدينا شخصيات متميزة في الرسم . وأشير بهذه المناسبة الى اللوحة البارزة" البناء" لجواد سليم ، وقد قال جواد في حينه إنه شاهد الأسطى البناء أثناء عمله وجذبه زيه والتشراوية وموقع البناء. وأراد جواد تصويره في لوحة من النحت البارز، وتلاحظ فيها ملامح مدرسة شرقية. وأعتقد إنها لوحة من النحت البارز ذات سمة عراقية متميزة. وبرز عندئذ الموضوع العراقي في الفن التشكيلي. إن طارق مظلوم يعتبر من أقرب الفنانين الى إسلوب جواد ويلاحظ ذلك في لوحته  " القرية". وتأثر كاظم حيدر بإسلوب جواد كما يظهر في لوحة " الشمر" ولوحة " الشهيد". وبرز فنانون آخرون كثيرون وبعضهم من الهواة المتميزين مثل قتيبة الشيخ نوري وخالد القصاب. وأستطيع الجزم بأن الفن العراقي ما زال يحتل مكانة الصدارة في العالم العربي.

ويمكن تمييز ثلاثة مسارات رئيسية في الفن العراقي هي : فائق حسن – تميز بإتباع التقنية الحديثة وغنى اللون والجو العراقي. وجواد سليم – إعتمد إسلوب العودة الى التراث القديم. ومحمود صبري – رائد الفكرة الإجتماعية في الفن، ولن تجد في أعماله مواضيع أخرى (بإستثناء فترة "واقعية الكم" طبعا).

  وحسب قوله إن فترة ما بعد الحداثة في مطلع القرن العشرين شهدت غياب النظرة الفلسفية الى الحياة لدى الفنان ، وظهرت تيارات وصرعات مختلفة . ولو إن ماتيس تأثر بالمجتمع في المغرب ، بينما تأثر بول كليه بما شاهده في مصر . وإنعكست تلك التأثيرات في لوحاتهما.

وفي حديثه عن الحياة والدراسة في باريس قال فيصل إنه سافر الى هناك للدراسة على حسابه الخاص، لأن البعثات الدراسية كانت تتم على اساس المحسوبية لدى السلطات آنذاك . وفي معهد البوزار تعرف على صلاح جياد أحد ابرز الفنانين العراقيين في المهجر لكنه – حسب قوله - أضاع الكثير من الفرص. وبرأيه إنه لم يحصل في البوزار على أي شئ جديد لأنه جاء الى هناك بعد تلقى دراسة أكاديمية جيدة في بغداد من حيث التقنية والمعارف العامة. ولكن الشئ الوحيد الذي توفر لديه في البوزار هو حرية الإبداع وزيارة المتاحف والمعارض والتعرف على أعمال الفنانين. وبعد ذلك سافر الى إيطاليا ومن ثم للعمل في الجزائر.

 وبرأي فيصل لعيبي إن الجو العام الآن في أوروبا يعكس إنحطاط الثقافة والفنون عموما. وظهرت جماعات مختلفة مثل جماعة فرانكفورت الذين يرون إن الإنسان الأسيوي الجاهل  يتعامل مع الطبيعة بمحبة بعكس الأوروبي الذي دمر الطبيعة. وهناك جماعة الأنتي- آرت. 

 وقال أيضا إن مفاهيم الجمال تغيرت :– إدانة كل ما يجري في العالم –إظهار القبح وليس الجمال – هذا جزء من موقف الفنان المعاصر من الأحداث في زمانه. ولا تنعكس في أعماله قيم جمال الطبيعة والحيوان والإنسان .

وبإعتقاده إن الفن هو الدين النهائي للبشرية وقال : أنا متفائل في مستقبل العراق. ففي كل شهر يقام معرض لفنان ما في جمعية الفنانين العراقيين. وفي المهجر يعمل فنانون عراقيون كثيرون من بينهم ضياء العزاوي الأكثر ذكاء وشهرة. ولكنني لا اؤمن بدور الفرد . إن مجتمع المؤسسات هو الذي سيسود في النهاية ، ونحن ما زلنا في مرحلة التطور الطفولية البريئة.

في الواقع إنني إنجذبت الى لوحات فيصل لعيبي لدى مشاهدتها أول مرة إن جميع الشخوص فيها ساكنة وشبيهة بالوجوه السومرية والآشورية والفرعونية. ففيصل لا يهتم بالبعد الثالث، بإستثناء لوحات البوتريه. كما

إن جميع موضوعات لوحاته مستوحاة من الحياة الشعبية في البصرة أو بغداد. أ

ما المنظر الطبيعي فلا يحتل مكانة بارزة في إبداعه. وتبدو اللوحات الكبيرة التي تحتل المرأة مكانة بارزة فيها وكانها من لوحات " الطبيعة الجامدة" (ستل لايف). ويبدو فيها الشخص الحليق الرأس او الذي يضع تشراوية على رأسه بعيونه الواسعة مثل الملك السومري جودا . إما الملصقات الجدارية فهي تذكرنا برسوم الواسطي .

 إن فيصل لعيبي عمل في الصحافة فترة طويلة ولاسيما في مجلة " الف باء"، وأتقن فن رسم الكاريكاتير، لكن رسومه الساخرة تظهر بشكل جلي أيضا ميله للعودة الى التراث، الى الأساطير السومرية والبابلية وحكايات ألف ليلة وليلة ، وبهذا تتميز كافة إبداعاته من لوحات وجداريات ومنحوتات . إن فيصل فنان طويل الباع في هذا المضمار. ولو أنه يؤكد بأنه لا يتمسك بإسلوب معين، لكن المرء يستطيع التعرف على لوحاته من أول نظرة. إنه فنان عراقي حتى النخاع. وتأسس الفن العراقي اصلا على أساس وطني ، ولهذا فهو يرسم من أجل شعبه ووطنه.

2/12/2018