في حروب القرن العشرين, تمت إبادة أكثر من "175" مليون انسان, قُتل من المدنيين, ضعف ما قتل من العسكريين.... حروب ومجازر ومذابح ومجاعات. هذا قرن المجازر المروّعة. المجزرة الأرمينية في تركيا, مجزرة رواندا, مذبحة سربرنيتسا, مذبحة صبرا وشاتيلا, المذابح في كمبوديا, مذابح الأرمن, مذابح سيفو, مذبحة سميل, مجاعة هولدومور"!
لم يذكر الروائي عبد الكريم العبيدي الكوارث والمجازر والحروب المتصلة التي حدثت في العراق في هذا القرن, لأنها ستكون مادته الخام, الذي سوف يدخلها في معالجاته الفنية, ومخيلته السردية ومبنى هذا النص في روايته "كم أكره القرن العشرين" لنعيش تلك الحروب والكوارث والمجازر ونكون مع الشخصية الرئيسة, مولود, أو مولو البلوشي, وننطلق معه وهو يقود مهمة سرد الاحداث الكبيرة والواسعة, والتي غطت من الزمن أحداث السنوات الثمانية, الحرب العراقية - الإيرانية, والحصار الاقتصادي الذي فرض على البلد, وغزو الكويت. والمكان البصرة بنواحيها وأقضيتها, وبغداد, والكويت, وهولندا.
البلوش أو بلوج هي إحدى كبرى القوميات التي تسكن بين باكستان وإيران وأفغانستان في إقليم بلوشستان, وقد هاجرت أعداد كبيرة منهم إلى البلدان المجاورة والدول الخليجية. وكانت لهم مملكتهم الخاصة في إقليم بلوشستان قبل أن تحتل باكستان الجزء الغربي وتحتل إيران الجزء الشرقي منه أثناء تقسيم الهند عام 1948. ويتواجد نحو سبعة ملايين بلوشي في بلوشستان غربي باكستان وثلاثة ملايين بلوشي في سيستان وبلوشستان ايران ومليون بلوشي في أفغانستان, وأعداد متفرقة في دول عديدة اخرى ومنها العراق.
ومن هنا تتضح لنا ملامح شخصية مولود البلوشي الذي كان نصيبه أن يعيش في هذا البلد في أوج اشتعاله, ويتعامل سكان البصرة مع عائلة مولود البلوشي بأنه بلا نسب ولا أصل ولا فصل. فيعيش بين ازمتين اقضت مضجعه, اولاها بأنه منبوذ ولا احد يرتضيه زوجا لابنته, أو عشيرة تقبله بينهم "ذبّاب جرش" كما يطلق على من يطلب الانضمام الى عشيرة غير عشيرته, والثانية أنه زج في حرب السنوات الثمانية وهو لا يرغب أن يكون حطبا لنارها، ومن هنا كوّن الروائي لغة سردية تنبعث من أعماق ووجدان وضنك العيش وصعوبة الحياة التي يعيشها مولود البلوشي, فهي تخرج من داخل الوجدان لتدخل وجدان المتلقي دون أي عائق.
نكون مع الفصل الاول من الرواية "الصندوق الاسود الاول" وهي تفاصيل تخص الروائي الذي استطاع أن يجد له موطئ قدم ضمن الاحداث, وكذلك وجد له فسحة يلج من خلالها, فيسافر الى كردستان العراق للالتقاء بشقيقة مولود البلوشي التي كانت تحتفظ بمقتنيات شقيقها وهي مدونات ومعلقة مولود البلوشي التي سوف نرحل معها لاحقاً.
يعد هذا بمثابة تمهيد وتهيئة المتلقي للدخول في رحاب تلك المعلقة, فسوف نكتشف أن الابواب تفتح على مصراعيها لحياة كبيرة, تضم بين ثناياها بلدا يخوض حربا ضروسا, كوننا سوف ندخل في الفصل الثاني "الصندوق الاسود" لنتابع ونترصد حركة مولود البلوشي في حله وترحاله, لأنه بمثابة العين التي تكشف لنا الاحداث.
"هذا الأمر يخصني وحدي. سأقترب من بداية مريحة, وأستخرج لنفسي نظرة بلوشية خالصة. لا بد من بداية. ولكن أيّ بداية لمعلّقتي ستكون عفنة, وقد لا أنجو منها لأنني سأعيد النظر ثانية في تَركة الهرب الثقيلة وسأهرب ثانية داخل الهرب ذاته".
تلك هي الورقة الاولى التي استخلص مولود البلوشي رسالته التعريفية لهذه المعلقة, ومن خلال الإشارة في الورقة الثانية من هذا الفصل الى الجد الكبير لمولود "عزت خان بالاجاني" وكذلك للشماريخ ويعني بهم هؤلاء الجنود الذين اعدوا للحروب والموت دون ارادتهم, لنكون مع الدفتر الاول وسياحة في العدم, ثم الى هروبه الاول.
كتبت الرواية بشكل دائري, أي أنها تبدأ من حيث انتهت, ثم تبدأ لعبته مع افراد الانضباط العسكري الذين كانت مهمتهم مطاردة الهاربين من الحرب من الجنود بشكل يضيق عليهم حياتهم , وهي لعبة الهرب والزنبور.
"ربما أنا الوحيد الذي يدرك سر حزنه, ويتحسس لمعان عينيه الغائمتين فـ "سكراب" تؤرقه لحظة الصفر ذاتها, لحظة انفجار الحساء الكوني وما قبلها. لقد كان الكون صفراً معدوماً, لا زمان فيه ولا مكان, وليس فيه "هناك لسكرابه" كان مجرد "عدم اولي", ثم حدث في لحظة الانفجار "هنا" و" هناك" داخل الانفجار ذاته. لا يوجد مكان خارج الانفجار, لا يوجد "هناك" له, كل ما يحيط بذلك الانفجار هو عدم , هو لا شيء".
وهكذا يبدوا لنا أن مولود البلوشي, لم يقدم لنا الاحداث بشكل محدود , بل أنه كان سبباً لنكتشف ما الذي يحدث في البلد أثناء هذه الحرب, ليس على صعيد جبهات القتال والمواجهة والقتال والانفجارات وسقوط المقاتلين بين جريح مزقته شظية او رصاصة قناص, وقتيل متروك في الارض الحرام وسط صورة المعركة وما تخلفه, بل استطعنا أيضاً ومن خلاله أن نعيش حياة أبناء البلد في البصرة وكيف كانت حياتهم, وقد حفل هذا النص السردي بمفاجآت كبيرة ومهمة وتحبس الأنفاس, وهو الأمر الذي تتطلبه صنعة الرواية في مثل هذا النص الذي بلغت عدد صفحاته اربعمائة وخمسة وثلاثون صفحة من الحجم الوزيري كما يطلق عليه, إضافة الى احتوائه حياة الحرب بصورة تخرج من أعماق الهرب والخوف, وهو أمر يتطلب جهداً فنياً كبيراً. وتلك المفاجآت الكبيرة التي جملت الاحداث وجعلتها ملتهبة ملحمية هي:
- إلقاء القبض على مولود البلوشي بإدارة مدبرة من قبل "صارم" احد افراد الانضباط العسكري الذي يسكن في محلته.
- الحكم بالإعدام على مولود البلوشي
- يوم تنفيذ حكم الاعدام , والذي فيه سيق الى مقصلة الاعدام بانتظار الموت وتلك اللحظة استغلها الروائي بشكل مبهر.
- نفذ حكم الاعدام بالمجموعة التي هو من ضمنها ولم يبق سواه, وعندما ينادي الضابط المسؤول عن الاعدام, يتوقف عند اسمه قليلاً واصله وفصله ويتريث قليلاً للاستفسار عنه من قبل مرؤوسيه.
- في هذه الفسحة من الوقت يصدر أمر عفو عام يشمل حتى الذين صدر عليهم حكم الاعدام , فينجو بأعجوبة
- ينقل الى جبهة القتال الساخنة "الشلامجة" التي هي في مواجهة محتدمة مع العدو بكل انواع الاسلحة. وينقل لنا الروائي صور المعركة بشكل ينم عن تجربة ومعرفة عن الحروب وما يدور فيها.
- يجد "صارم" صريعاً فيهتدي لحيلة بأن يجرده من اوراقه الثبوتية ويضع بدلها اوراقه والقرص الذي يحمل اسمه وكل ما يؤكد أن هذا القتيل هو مولود البلوشي وليس "صارم" ويصاب وينقل مع جثمانه المزورة.
- يتحول مولود البلوشي الى ضياع الضياع الذي يعيشه فأنه يصبح "بلا" أي بلا وجود.
- ثم يتدبر أمر هروبه الى خارج البلد عن طريق الكويت في حرب الكويت ومن هناك يسافر الى هولندا ويقدم طلب الهجرة ثم اكتشافه بأن حي يرزق من قبل شقيقته والتقاء الروائي به, ثم يصاب بمرض لسرطان ويموت في بلد الغربة.
هذه المفاجآت جعلت الاحداث ساخنة ممتعة شيقة. وقد استطاع الروائي عبد الكريم العبيدي ومن خلال معلقة البلوشي مولود, أن ينقل لنا الزمان والمكان والشخوص وأحداث الحروب التي مرت بالبلاد, بشكل دقيق وصادق ومن خلال تلك اللغة التي تنبعث من الوجدان لتدخل وجدان المتلقي, وهي لغة شعرية حسية فلسفية تحتاج الى جهد ذهني كبير.
رواية "كم أكره القرن العشرين – مُعَلّقة بلوشي" تأخذنا الى الحروب وما يحدث فيها, وتقدم لنا واقع الحياة المؤلم للبلوش بشكل يثير التعاطف معهم, وبلغة سردية تنسجم والسياق الفني لمتن النص.

عرض مقالات: