مهما كانت الشكوى أو مسبباتها، فهي فعل لتعليل العودة الى الماضي الثقافي القريب رغم اننا لا نؤرخ للمسرح "لنصنمه" أو نبكي على اطلاله. ففي الثقافة او الابداع لا وجود لذروة نهائية او تحفة ختامية. المسرح او اي ابداع آخر لا يكون بالتكرار او النسخ، لكن بالنسيان والالغاء والتقطع لا تبني نهضة.
لقد كانت لنا في القرن العشرين مهرجانات وفعاليات في ميدان المسرح على مستويات متعددة، نضالية وفنية، وطنية وشخصية تدين لها الحياة الثقافية بفاعلية ميدانية، مع وفاء والتزام نادرين، كما تدين لها الذاكرة التوثيقية بنظر بعيد وتنظيم يتجاوز التنسيق والترتيب الى الاستشراف والاستنفار والتخطيط، وهو ما اعطى رجل المسرح في النهضة المسرحية العراقية خصيصة العماد الضامن. وما يؤلم انها توقفت وقضت دون ان تحقق امنيتها في المواصلة والاستمرارية المطلوبتين.
ان كان مسرحنا في الظل ام قد فارقنا منذ سقوط سلطة الدكتاتور في نيسان 2003 فقد ترك هذا المسرح بين فضاءات المسرح العربي اجمل ما يملك من ايقاعات وأحلى ما في ذاكرة المنصة من تنويعات.
وعلى مدى تأثره بالمسرح اليوناني والروماني والاليزابيثي او بالمسرح العالمي الحديث، ركز اهتمامه على الهوية الوطنية فلم يسمح لنفسه بدخول مدارس الاغتراب وعروض التهريج وفواصل الاباحية.
ورغم ان مسارح عربية تعرضت للمؤثرات والصيحات الغربية كالمسرح التونسي، واللبناني والمصري ومسرح "الباتشورك" السوري، فقد بقي المسرح العراقي متمسكاً بالهوية الطرازية العراقية بأي شكل من الاشكال. فالهوية الوطنية لها اصول او طراز لا يسمح بانتهاكها تحت اية ذريعة.
كلما عرضت مسرحية جديدة من عروض مسرحنا العراقي في منصات القاهرة وقرطاج ودمشق والكويت وعمان والفجيرة وبرلين وباريس وامستردام وجدها الجمهور كختم سومري على اسوار اوروك وجليلة كقداس على رفات امرأة.
ورغم ان مدارس المسرح تظهر وتغيب، كل عام، كالمدارس الفرنسية والايطالية، فان خزائن المسرح العراقي لا تزال مفتوحة للمشاهدين، منذ نصف قرن، ومقصودة من محبي الفن والشعر والجمال دون ان تبهت ألوانها، وتنحسر موضتها.
المسرح العراقي كيان متفرد اشبه بالبحر: يسود، يتلاطم، يهدر، يضرب الساحل، وبرعد هائل يصل الى مقعد المتفرج. وعروضه قادرة دوماً على اثارة ذوقك وحساسيتك الثقافية والحضارية بصرف النظر عن تاريخ انتاجها واماكن تقديمها.
المسرح العراقي هو ذلك المعمار الاكدي، البابلي، العباسي، الذي عزز اعمدة المسارح العربية، ولولاه لبقيت سماء المسارح العربية لوحة ميتة وقمراً لا يتنفس. في كل مرة ألوذ بصالاته، كنت اطفئ شعُل اللهب، وأغسل الحياة اليابسة، واشعر انني في حضرة جلجامش او بلاط النعمان او صحراء المتنبي وانني امام مدرسة كبيرة تحترم التاريخ، وقواعد الطرازية العراقية المسرحية.
من هو المسرح العراقي؟ الى أي ايوان من إيوانات التاريخ ينتمي؟ هل هو الاولمب، او البارثينون، او الرويال كورت، او البولشوي؟ من هو هذا المزيج من الذهب القديم، والنار الحارقة والرياح العاصفة، والبحار التي لا موانئ لها؟!
كل ما اعرفه انه غادر حتى يستريح قليلا من الكبرياء..
على ان يعود في القرن الثالث والعشرين إلينا..
حاملا معه ما تبقى من ودائع البنك المركزي..
وخزائن البترول..
وكبرياء العراق.

مسرح التمرد ..
مسرح الاحتجاج

ترى، اين الحل في انتكاسة المسرح العراقي الراهنة، وهو الآن في مرحلة موته السريري، ان لم يكن مات او نحر وانتحر في ظل عراقنا الجديد؟!
حقاً، ان عالم المسرح العراقي كبير وشاسع، ابوابه، واتجاهات الدخول إليه والخروج منه متعددة ومتناقضة. من هنا صعوبة الكتابة عنه، وعن ما يشكو منه. فالكتابة عنه كتاريخ وحسب تحمل الكثير من التعسف. ذلك ان منجزه لا ينفصل عن تاريخه الزمني، ومن احداث قرن بكامله، هو القرن الذي ودعناه منذ قرابة عقدين، الذي نشأ وانتعش فيه المسرح العراقي بكل معنى الكلمة من اوله الى آخره.
والكتابة عنه من باب السياسة وحسب، هي اكثر من تعسف في ظل المشهد السياسي العراقي الراهن الذي تكتنفه المحاصصة وحالات الفساد وتدهور القطاعين الصناعي والزراعي وشيوع البطالة والفقر وانعدام الخدمات وغيرها الكثير، رغم ان المسرح العراقي قد مارس العمل السياسي برواده وعروضه وفرقه المسرحية، وانخرط في كل الحركات السياسية من الباب الواسع، من خلال افراده بالذات، وعبر مواقفه المتعددة من احداث العصر في وطنه العراق وفي البلدان العربية الاخرى وفي العالم.
ولعلنا لا نكشف سراً إن قلنا إن الفرق المسرحية العراقية قد اتخذت منهاجها الوطني والديمقراطي منذ اربعينات وخمسينات القرن الماضي، كالفرقة الشعبية للتمثيل التي تأسست في العام 1947 من خلال الفنان الرائد جعفر السعدي وصحبه، وهي فرقة اتخذت من نهج الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة السياسي المعروف كامل الجادرجي مساراً عملياً في عروضها المسرحية، في حين سعت قيادات واعضاء فرق مسرح الفن الحديث والشعبي واليوم والصداقة بواسطة يوسف العاني وابراهيم جلال وسامي عبد الحميد وخليل شوقي وجعفر علي واديب القليجي، الى اتخاذ المنهج الماركسي طريقاً لجميع عروضها المسرحية.
وفي الوقت الذي اتخذت فرقة المسرح الحر بقيادة الرائد جاسم العبودي وثلته المسرحية، امثال محسن العزاوي وكارلو هارتيون وجاسم شعن، السير على خطى النهج القومي العروبي، من دون ادعاء أو غلو، اكتفت فرقة الطليعة للرائد بدري حسون فريد وفرقة الرسالة للفنان سعدون العبيدي وفرقة اتحاد الفنانين بترويكتها الخمس "طه سالم، عبد الوهاب الدايني، خالد سعيد، فاضل القزاز، سامي تيلا" بالخطاب العلماني من دون شروط او املاءات، على الرغم من صراحة "فرقة الحرس القومي للتمثيل" التي تشكلت في اعقاب انقلاب 8 شباط 1963، بقيادة غازي مجدي وعز الدين طابو وسامي السراج كفرقة للمليشيات المسلحة الخاصة بقادة الانقلاب الدموي المذكور.
وأحسب ان لهذه التفاصيل التي تنطق بها مسيرة المسرح العراقي خلال اكثر من سبعين عاماً، والمناسبات الخاصة والمهرجانات العامة التي قدمت فيها هذه المسيرة تستدعي في الجزء الاكبر منها الاعجاب والتقدير، فهي تغري في جزء منها بالنقد والتقريض في أقسى اشكالها، وفي أقصى حدودها.
لا بد اذن من رحابة النظر ورحابة الامر بمسرح من هذا النوع، مسرح يضع نفسه من دون تردد او ادعاء في موقع الخطاب الوطني المبتكر، اذ ان الكثيرين ممن واكبوه او قرأوه جيداً، وحتى ممن اتقنوا قراءة المسرح العربي والعالمي في كل عصوره يلتقون معه في تقييم سيرته ومسيرته، كمسرح استثنائي بأهمية عطاء مؤلفيه ومخرجيه وممثليه واصحاب التقانة الدرامية والجمالية فيه، وكشاهد كبير على عصر بكامله.
ليس غريباً على امتداد حياة هذا المسرح الا ان يكون في حالة من التمرد والاحتجاج على ذاته وعلى السلطات الحاكمة، وعلى المسارح العربية والدولية التي تنافسه في الحضور والوجود، حيثما وجدت، يخوض التنافس في كل الاتجاهات، شجاعا في الاقتحام وشجاعا في التراجع والانهزام، الى حدود القبول من دون حرج بالتراجع في الموقع النقيض، كما حدث في مشاركة احد عروضه الاكاديمية في مهرجان "فوانيس" الدولي ذي التمويل المتروبولي المشبوه، او كما حصل مع الفرقة الوطنية قبل عامين بأحد عروضها الشعبية في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وكأنه يقول نعم في الوقت الذي قال فيه لا!

وبعد ..

ان من البديهيات المعروفة في بلدان العالم كافة، مهما كانت نظمها وأياً كان قدرها من الغنى او الفقر، بأن مسارحها الرسمية والاهلية تمول من قبل خزائن هذه الدول ومن شركاتها ومؤسساتها الرسمية والتجارية وفقاً للمبدأ القائل: "على قدر اهل العزم تأتي العزائم" من اجل ان تكون منصاتها المسرحية معافاة على الدوام. فما بالك بدولة دستورية ديمقراطية كدولتنا لم تفكر جدياً في اعادة الروح لمسارحنا المحترفة منذ ثمانية عشر عاماً، وانعاش الفرق والمسرحيين كافة بمنح الحوافز والفرص لاهتزاز الستائر من جديد وابداع اعمال مسرحية مستمرة، كما هو الشأن منذ ثلاثة ارباع القرن الماضي.
من المؤسف حقا ان اغلب السياسيين لدينا غير متيمين بالمسرح، تحت شعور بأن الثقافة ليس بامكانها ان تسحب وراءها اشكال النشاط الاقتصادي الاخرى، او مجالا للتنافس المحموم على جني الارباح او المغانم. ان الذي كنا نفكر فيه على اساس انه ثقافة، اصبح حقلاً اساسياً لعمليات المقاولات والنشاط الرأسمالي.
كل هذا يحدث ضمن تراكم رأس المال الفئوي او الطائفي بالاضافة الى انه كان للأخير مفعول في كسر الفروق بين الثقافة الرفيعة والاخرى المتدنية. وان رفض الامتثال بأن هناك بعض الاجراءات الاساسية الفاعلة، وانه يمكن التأسيس لحقائق معروفة ومبادرات ملهمة، يمكن لهذا كله ان يقود الى سياسات دفن الرأس في الرمال كالنعامة بسهولة كبيرة تحت وازع: سوف اتبع مصلحتي السياسية الخاصة، وليذهب كل شيء الى الجحيم.