الهدف الأول الذي يرنو اليه أي صحفي موضوعي وملتزم، هو إيصال المعلومة الى المتلقي، عبر صيغة لغوية بسيطة ومباشرة ومفهومة، بعيدا عن فخ الاثارة الذي يهدف في الغالب الى صيد القارئ بطرق رخيصة ومهينة تتجاوز المعايير المعروفة للصحافة، وقليلون جدا هم الصحفيون الذين يبرعون وبذكاء ملفت في توظيف الاثارة لاستقطاب القراء وشدهم الى تقاريرهم وقصصهم الخبرية، مع الحفاظ على تلك المعايير الصحفية.
عبد الكريم العبيدي، واحد من اولئك الصحفيين القلة، فقد اجاد توظيف الاثارة، بطريقة ماهرة، في مادته الصحفية، سواء في المواضيع التي يختارها أو في شخصياتها، واستعملها لدعم صدقية في نشراته وروبورتاجاته التي ينشرها في صفحة تحقيقات من جريدة "طريق الشعب" باسم أكرم الخاطر، وهو الاسم المستعار الذي اختاره في توقيع قصصه الصحفية.

2
دائما في الوسط الصحفي العربي والشرق اوسطي بشكل عام، يعتبر استخدام السرد في الخبر والتقرير الصحفيين، اما خصما او مضعفا للحقيقة المسؤول عن نقلها الصحفيون، الا ان العبيدي، يؤكد ان استعمال الخيال واثارة مخيلة القارئ في الصحافة، بمقدوره الانسجام مع الحقيقة، واكثر من ذلك، أن يكون رافعة من روافعها، وموسعا من انتشارها ورواجها، ما يسمح لنا، في إعادة النظر في وهم تعارض الواقع مع الخيال او الحقيقة مع المتخيل.
ثمة منطقة وسطى بين هذه الثنائيات، ادركها العبيدي، وانتبه لها، ثم استعملها.

3
العبيدي، غامر في الدخول الى هذه المنطقة الخطرة، واستطاع ان يلبي حاجة القراء، الى كتابة صحفية، جاذبة، عبر لغة رشيقة ومشوقة، وأسلوب درامي قصصي، من خلال براعته في استخدام تقنيات القص والسرد، مثل: الحبكة، والتشويق، ورسم المشاهد ووصفها، والاهتمام بالصراعات، والشخصيات الدرامية، في عرض مادته الصحفية وروبرتاجاته.
فهو يوظف تقنيات السرد اكثر من تقنيات الخبر وقوالبه، لكنه يحافظ على جوهر القصة الخبرية، وهو الحقيقة، وان قام بعرضها بأسلوب مختلف.
وهنا اشير الى ان العبيدي، أيضا، وظّف تقنيات الصحافة في اعماله السردية، واهم تلك التقينات، حضور المعلومة "الحقيقية" ووضوح اللغة وبساطة الاسلوب، فلم تكن لغته الروائية، في اعماله الأدبية، لغة جامدة تبحث عن قارئ نخبوي ومثقف، وتتجاهل فضول القارئ العادي، بل كانت لغة الاثنين معا، وتلبي فضولهما، وتحترم مداركهما ووعيهما.

4
عمل العبيدي على توجيه الاهتمام بالفئات الفقيرة والمستضعفة وهمومهما وتطلعاتها البسيطة، التي عادة ما تضيع في زحمة الاخبار السياسية، والصعود بها الى الواجهة، وإعادة ضخ الحياة فيها، والاعلاء من شأنها، بعد التعايش مع ازماتها والاقتراب من معاناتها والاستماع الى تطلعاتها واحلامها المحدودة، من منطلقات إنسانية.
تمكن العبيدي، من مزج أسلوب الكتابة الروائية مع الريبورتاج، في قضايا مألوفة، عادية، مهملة، ومملة في غالب الأحيان، ليجعل منها، مثيرة لاهتمام القراء، ملبية لفضولهم، محفزة لعواطفهم.
يرفع العبيدي، من تفاعل المتلقي، بقوة اسلوبه السردي المطعم بكوميديا سوداء، وينتقل بقارئه من مرحلة المألوف الى مرحلة ما بعد المألوف.
فهو يجذب الانتباه إلى اشياء محددة، ربما كانت ستغيب عن الملاحظة، ويحولها الى مرويات صحفية تثير قلقنا العاطفي والإنساني، وتنقلنا من منصة التفرج الى منصة التفاعل.

5
نجح العبيدي، من خلال "تحقيقاته" في توسيع مخيلة القارئ/ المتلقي، وتحفيزه على رسم صور عديدة للاحداث العادية، المباشرة، والمملة، للتفاعل معها، وان يكون جزءا من بنياتها السايكولوجي، واحيانا تتحول الاحداث ذاتها، الى احداث شخصية للعبيدي، يهتم بها انطلاقا من انه شريك فيها، او جزء منها.
والعبيدي، هنا كاسر للقوالب النمطية، ولا يلتزم بالقواعد، في كتابة الروبرتاج او الفيتشر، ليس جهلا بهذين النوعين الصحفيين المهمين، بل اختار السير الى مقاصدهما مباشرة، صوب الجمهور الإنساني للصحافة، من خلال الكتابة العفوية العارفة، والمدركة، والقاصدة والملتزمة بالهم الانساني والانتصار له واعادة تصديره الى الواجهة في راهن عراقي اناني وجشع.