قليلة هي المؤلفات التي تتناول ظروف السجون ، لكنها كبيرة بما احتوته القلة من كون مسكون بكل ما أنتجه العقل الملتبس والسائر نحو حتفه بجدارة ورغبة مريضة ، لأنه لا يدرك دروس التاريخ ، وما آلت إليه جبابرة الأزمنة والأنظمة منذ نشوء البشرية ، وبدء الأرض وهي تستقبل ساكنيها . ولعل لؤي عمران واحد ممن سلبتهم الأزمنة وجودهم ، وصادرت حريتهم ، ووضعتهم في الموضع الحرج .وذلك من خلال كتابه الموسوم "سيرة سجين سياسي"، الذي احتوى نصوصاً تسجيلية وثّقت مجريات اعتقال إنسان لم يرتكب جرماً ، سوى حب وطنه ، ومستعد للتضحية بوجوده من أجله . والكتاب فعلاً حقق سيرة يومية للسجين ، ولم يدفع مقطعات النص نحو بناء أدبي يعمل على تجسيد الأفعال وردودها في أحلك الظروف وقساوتها . فالكاتب اقتصر مشواره التسجيلي ، بأن وثّق ما كان مباشراً ومرئياً معاشاً . أي أنه يصف المشاهد كما يراها الآن وهو خارج المعتقل ، أو ضمن دهاليز الظلام . ولو قارناه مع كتاب "واقف في الظلام" لـلشاعر عبد الزهرة زكي مثلاً لعرفنا جيداً كيف تكون القطعة الأدبية وهي تدوّن ما تعيش وسط مطبق ضيّق ، وحياة مليئة بالمفاجآت السلبية . لعل التسجيل الذي اعتمده الكاتب عمران لا يخلو من وصف المشاعر تلك ، لكنها بقياس بناء النص كانت قليلة التأثير بسبب مباشرتها ، واخفاق صياغتها أدبياً . ذلك لأن الكاتب وهو يستذكر ما عاش ، لزاماً عليه أن يتماثل مع تلك التجربة ، أي يُعيد تأثيراتها ، ويُصعّد من انفعالاتها .
يبدأ الكتاب بمقدمة للقاص المبدع نعيم شريف الذي عُرف بدقة صياغته للنص السردي ، وحيوية عوالمه القصصية . كانت المقدمة توحي وتؤكد على أهمية أدب السجون ، واصفاً الظروف التي يمر بها السجين ، وهو ما مربه فعلاً . لذا كانت انثيالات مقدمته مزيجاً من الرؤى الكامنة في النفس البشرية المتمثلة في "نعيم". فسؤاله "كيّف لمُخيّلة غضة أن تفهم سؤال الحرية؟" تأكيد على مواجهة الكاتب لتجربة قد لا تناسب عمره . لذا ومن هذا المنطلق ، يصف الفتى "المحتشد بالأحلام الثورية في تغيير العالم. المهموم أن الخبز للجميع".


هذا الوصف يختزل الكثير من أجل توضيح المشهد الذي اطلع عليه واطلعنا عليه من بعده . غير أنه يسأل أيضاً سؤالاً عامة معنية به الإنسانية ؛ لماذا يتصرفون بهذه القسوة المفرطة ؟! وهو العارف بالجواب . وحين ينظر بالعين اليمنى ، لا يطلق سوى مفردة "آه ؛ إنه العالم الأوسع خارج زنزانة الستة أمتار، باحة السجن ، سجن الخناق". من هذا المدخل نجد الكتاب في سيرته قد أكد على روح التقصي للمضمر في الأمكنة المغلقة على ساكنيها من النزلاء . إذ احتشد الكتاب بفصول عكست قسوة الظروف ، فقد ابتدأ من حيث انتهت ، وكان النموذج خارج المقبض ، فلابد له من تسجيل ما عاش "لا بد لي من نقل بعض من تجربتي وتجارب الآخرين" وهذا عني وضع تبرير اتساع رقعة مذكراته "سيرته" نحو سيرة من عاش معهم . وهي خاصية ذاتية تعني مقدار وطنية المؤلف الذي لم يُحدد مساراً ذاتياً لسيرته ، فهو كائن مُستلب من بين آخرين صودرت حريتهم ، بل انمحى وجودهم جرّاء المحاكم الصورية . كما ويستدرك ما قلنا في البدء من ضعف أدبية النصوص "أدواتي بسيطة ... قلمي ... ألمي .... ذاكرتي ...حرصي على أن لا نضطر الى تدوين ذكرياتنا على الجدران ثانية. أن لا نضطر الى رؤية العالم من خلال ثقب صغير". كان لوقع عبارة "جوه الدرج" تأثير بليغ على القارئ ، بعد أن ذاق السجناء مرارة المكان ممن ابتدأ معم التحقيق الجسدي . فهي تفاصيل لابد من وصفها خلال عناوين الفصول . لقد كان اختيار مفردات الوصف أكثر بلاغة وشمولية للأمكنة والفعاليات القاسية مع أجساد لا تحتمل مثل تلك القسوة الوحشية . فعناوين مثل "جوه الدرج ، في الأوفيــز، في وسط المسلخ ، في النظارة، سجن الخنّاق ، الانتقال إلى الأمن العامّة ، إلى محكمة الثورة ، الحجر"، استمدت حيويتها من طبيعة المسرود تحت لافتات كهذه. مما وسّع من أُفق المسرود. فلكل من هذه الأمكنة خصائص وسمات ووظائف ، وهي مصاغة بشكل تراتبي ، فإن لم ينفع هذا مع السجين ، يُنقل إلى مكان آخر فيه أساليب قهر مغايرة ، وهكذا يمر السجين كما لو أنه في امتحان ،مستعيناً بجسده وصبره على الصمود أمام أسئلة السوط والآلات الحادّة والحبال السميكة والكيبلات .
إن السيرة هذه تكللت بالحقائق ، المرّ منها ، والقاسي ، فقد استطاع المؤلف أن يستعيد لحظات المهرجان الجسدي ، سواء له أو لغيره بدقة تعبير ، وحقيقة توضيح وانعكاس ، مما مكّنه من خلق معادل موضوعي للنصوص . كذلك من أن تكون سيرته ضمن سيّر كُتبت ، أو التي لم تُكتب بعد ، فكتابة السيرة هذه فيها حث لمن مر بهذه التجربة ، التي نراها ضيقة الأفق ، بالرغم من اتساع رقعتها في الوجود . إنها تصطف مع ما كتبه كل من "زهير الجزائري ، عبد الزهرة زكي ، عقيل حبش" وغيرهم.
لقد قدم الفنان ماجد الوروار لوحات انطباعية ، مزجت بين المتخيل الفني ، والمسرود ،مما أعطى النصوص بُعداً آخر يُضاف بجدارة فنية إلى التسجيل خلال علامات تشكيلية ، وظف فيها الرموز القارّة كالطير والسمكة والباب والنافذة والحصان والشواهد التي وظفها أيضاً الفنان كاظم حيدر في ملحمته "واقعة الطف".

عرض مقالات: