لم تدر الدوائر على جمعية الكتّاب والمؤلفين في العراق بعد انقلاب 8 شباط 1963 كما دارت على الاتحاد العام للادباء في العراق، حينما اغلقت ابواب الاخير وختمت بالشمع الاحمر وجر اغلب اعضائه الى المعتقلات والمسالخ الدموية والمحاكم المزيفة بفاعلية ميليشيات الحرس القومي ومن يقف وراءهم من قادة العسكر في ذلك الزمن.
الجمعية المذكورة ولا شك هي من الارهاصات الثقافية المضادة لزعيم ثورة 14 تموز التحررية الوطنية، بعد ان تأسست في العام 1959. وكانت دوافع تأسيسها سياسية اكثر منها ثقافية، ذلك ان الادباء الشيوعيين وحلفاءهم – كما يقول الشاعر سامي مهدي في كتابه "الموجة الصاخبة" – كانوا قد هيمنوا على اتحاد الادباء العراقيين منذ اجتماعه التأسيسي الاول فما كان من الادباء الآخرين الا ان يقاطعوه، ويتنادوا الى تأسيس جمعية الكتاب والمؤلفين.
ويستدرك الشاعر مهدي، قائلاً: غير ان هذه الجمعية لم تكن جمعية أدباء، بل كانت جمعية خليط يبدأ بالأديب ويمر بالمؤرخ والجغرافي والمتفلسف والقاضي والمحامي وينتهي بالرسام، وكل ذلك تحت لافتة "الكتاب والمؤلفين" وان بقي الادباء لولبها المحرك، ولذلك افتقرت الى التجانس وضعفت حماستها للادب. ويضيف ان الجمعية اشبه بمقهى من المقاهي اكثر منها جمعية ثقافية، او كانت آلية نشاطها آلية مقهى اكثر من آلية جمعية.
وقبل ذلك، يخلص الشاعر مهدي بأن الجمعية أصبحت "بمرور السنين" مجرد بيت يأوي حارسها "نصيف" وعائلته الصغيرة ومكتب متواضع يفد اليه الدكتور يوسف عز الدين امين سرها ورئيس المجمع العلمي العراقي في الستينات، ليتفقد بريدها. وكان الشاعر خالد الشواف عضو هيئة ادارتها ومدير عام الثقافة في الزمن ذاته يقضي فيها بعض الوقت بدلا من المكوث في بيته القريب من مقرها يومئذ او الذهاب الى أي مكان آخر.
اما ابرز اعضاء الجمعية او المترددين عليها او اقطابها المعروفين وقتذاك، فهم ثلة من الادباء والمؤلفين الذين لا ينكر دورهم الابداعي والثقافي حتى الوقت الراهن لاعتبارات فنية واخلاقية، امثال جليل العطية ومالك المطلبي وخالد علي مصطفى وحميد سعيد وسامي مهدي وآمال الزهاوي وشفيق الكمالي وعبد الامير الموسوي وشاذل طاقة وعبد الجبار البصري وعبد الجبار الحكيم.

الجمعية وقصة تاييس

لا أدعي شخصياً ان لي قصة مع جمعية الكتاب والمؤلفين في العراق تشبه قصة "تاييس" التي كتبها الروائي الفرنسي اناتول فرانس عن تاييس والراهب بافنوس: ذهب بافنوس الى تاييس كي يسحبها الى دائرة الايمان، فخرج هو من دائرة الايمان.
والحق، انني وثلة من أقراني الشباب، كنا نطمح في مطلع السبعينيات الى الانتماء لاتحاد الادباء في العراق والحصول على هويته الاثيرة في قلوبنا، اثر عودته الثانية في العام 1969 الى المشهد الثقافي العام برصيد مهنى وسياسي ثقيل ومعلن، بعد خمسة اعوام من الاغلاق القسري المذكور. ولكننا عدنا كما يقولون بخُفي حُنين، الذي ما فتئت البشرية تحمل عند فشها خُفيه. ولا بأس من القول، اننا كنا في ذلك الزمن حذرين محيرين، بين الارتماء السهل الى جمعية الكتاب والمؤلفين كما يدعي البعض من الزملاء والاقران، او الانضواء العسير الى اتحاد الادباء على الرغم من القواعد البيروقراطية المتعالية التي فرضتها علينا لجنة القبول الاولى من خلال الشاعرين سعدي يوسف وسامي مهدي واللجنة الثانية المتمثلة بالشاعر علي الحلي والباحث التاريخي المعروف هاشم الطعان. وكلا اللجنتين كانت ضدنا نحن الشباب لاسباب شتى.
وكان الامر مؤسفاً مؤلماً، وكانت القصة كلها ان الراهب بافنوس حينما ذهب يستدعي الغانية تاييس الى ارض الفضيلة، ظل مقيماً في ارض الرذيلة. ولكن هل كانت ارض الاتحاد العام للادباء هي ارض الفضيلة؟ هل هي ارض الحق الادبي والثقافي التي نبحث عنها؟
لن أنسى ما حييت، نحن الشباب المتهافتين على عضوية الاتحاد كنا في محنة هاملتية "اكون او لا اكون" خلال العقد السبعيني المنصرم، خصوصا بعد ان نضج وعينا وتفتحت مداركنا الابداعية، إثر ارتيادنا او مداومتنا اليومية للاتحاد العام للادباء في ساحة الاندلس ومتابعة جلساته النقدية والشعرية والمعرفية في أماسي الاربعاء من كل اسبوع، فضلا عن سهراتنا شبه الصاخبة في حدائقه الممرعة كلما توافر في جيوبنا الخاوية شيء من المال يسد رمقنا في الطعام والشرب حتى الهزيع الاخير من الليل. كأننا صعاليك ونحن لسنا بصعاليك، سكارى وما نحن بسكارى، ادباء ونحن انصاف ادباء لم يقو عودنا بعد لامتلاك الجرأة الحقيقية في مواجهة رؤوساء الصحف والمجلات او وضع نتاجاتنا الادبية على طاولاتهم التحريرية.
واتذكر الآن، وكأنني اركب آلة الزمن مع صحبي السبعينيين، نحلّق في سماء لا نهاية لها، ثم نحط في الحدائق ذاتها ، على الرغم من البعد والابعاد وتحولات الزمان والمكان، لأجد نفسي مع الصحب ذاتهم حينما كنا نبحث عن مكان هادئ مشروع نلوذ به من دون جدوى. بل لم يكن بمستطاعنا حتى إلقاء التحية على نجوم واساطين الادب العراقي وقتذاك، كالجواهري والبياتي، وبلند وسعدي ومردان وألفريد والتكرلي والطاهر والكمالي والدباغ والشوك وبحر العلوم واليتيم – اعتزازا وتبجيلا – وكان اقصى ما نلقاه من مودة وتقدير يتمثل ببعض الايادي المرحبة من بعض الموائد المبعثرة، كأيادي فاضل ثامر وياسين النصير وصادق الصائغ واحمد خلف ورشدي العامل وسلمان الجبوري وفهد الاسدي واسعد محمد علي وعبد الامير الحصيري وجان دمو.. وكل هذه الموائد تحذرنا من الانجرار او السقوط في خضم بحيرة جمعية الكتاب والمؤلفين العراقيين الغامضة، شبه الميتة.
و يا رحمة السماء!.. كم من العمر مضى وانقضى، وما زلنا حتى اليوم بالحيوية والنشاط ذاتهما في حب الحياة والادب والفن، وبالطريق او المسلك ذاته الذي اختططناه من دون انعطافة او خلل او رطانة لسان.

ماذا وراء ذلك؟

ربما قصدت من وراء هذه المناقشة ماذا يحدث عندما تتصارع منظمتان ثقافيتان معروفتان في مشهدنا الثقافي الحديث، وتتحول العلاقة بينهما الى علاقة تنابذ وكراهية بدلا من ان تكون علاقة سلام ووئام او حوار وتفاعل، فتنتفي كل قوة منها الاخرى، متصورة انها النقيض الذي لا بد ان تمحوه من الوجود!؟
ولكن القصد الحقيقي من وراء كل ذلك تحقيق ثلاثة أهداف دفعة واحدة: أريد أولا زحزحة الاشكالية الثقافية بين المنظمتين المذكورتين كلتيهما من اجل التوصل الى مقاربة وطنية معززة بهاجس الادب والفكر والتأليف، احدهما نعتت بأجمل الصفات وارقاها كالتقدمية والديمقراطية والنخبوية، والاخرى اطلق عليها اسوأ النعوت وأخطرها كالدوغمائية والشوفينية والرجعية وحتى الماسونية والعمالة للغرب نظرا لعزلتها وامتيازاتها المثيرة، كتوفير مركز اجتماعي راق لها في اهم مراكز بغداد "الاعظمية شارع عمر بن عبد العزيز" وتوفير قطع سكنية لاعضائها ومنتسبيها، مع تعضيد نشر كتبهم وسفرهم خارج العراق، فضلا عن مشاركة الجمعية وقتذاك في مؤتمرات الادباء العرب المنعقدة في سوريا ولبنان ومصر، وتمثيل العراق في مؤتمر الكتاب الأفروآسيويين في بيروت عام 1967. وهي امتيازات يجاهد اتحادنا العام على توفيرها حتى وقتنا الراهن.
واريد ثانياً زحزحة التبسيط الذي قدمه الشاعر سامي مهدي في تهميش جمعيته واعتبارها محض مقهى لتزجية اوقات الفراغ بين اعضائها ومريديها، كأنها لم تكن آية للناس او حاضنة تجمع ما يسمى بالقوميين العرب من المؤلفين والكتاب العراقيين الذي سنتطرق اليه لاحقاً باختصار مفيد.
واريد ثالثاً واخيرا تبيان الاضرار الفكرية والثقافية والنفسية التي حاقت بأعضائها والمحسوبين عليها الناتجة عن الفكر القوماني والعروبي الضيق، عندما اختزل الانتماء الوطني الى صيغ عابرة وزائلة واستلابية منذ دوافعها الانشقاقية الاولى في العام الثاني لثورة 14 تموز واضمحلالها التدريجي الصامت في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
وهذه الاهداف الثلاثة يمليها عليّ همان متواصلان لم يفارقا مقالاتي ومدوناتي حول الجمعيات التأسيسية الاولى في تشكيل المشهد الثقافي العراقي العام خلال القرن العشرين. ان هدفي في الواقع يتمثل في تقييم الريادة الفردية والمؤسساتية في تشكيل ذلك المشهد، ثم فحص العوامل والمؤثرات الاجتماعية المقارنة والمحسوسة التي ترفض ان تسجن ثقافتنا العراقية في ثبوتية خصوصية او جهوية تكاد تكون شوفينية، كما ترفض الرؤيا الخرافية والعدمية التي أشاعها البعض عن هذه الثقافة، التي تكاد ان تزيل عنها كل صيغة تاريخية.

كذلك هي تصاريف الوطن

قد اختلف مع جمعية الكتاب والمؤلفين وافرادها في سجل تاريخهم المنصرم، ولكنني احترم منجزهم الابداعي الفني. فالاختلاف لا يمنع الاحترام، الاختلاف لا يحض على الكراهية، الاختلاف لا يضرب على يد المروءة كما يقولون. وربما الانصاف وحده يدعونا الآن الى تقييم شواغل هذه الجمعية، والتعرف على مسار قياداتها ومنتسبيها او الذين حسبوا عليها. وهم في تقديري ادباء قوميون ابتدأت ازماتهم الفكرية والسياسية بعد اسقاط سلطة العقيد عبد السلام عارف – الرجل الثاني والرديف الامهر لسلطة الزعيم عبد الكريم قاسم – وتقديمه الى محكمة الشعب بعد اشهر معدودات من ولادة الجمهورية العراقية الجديدة.
ولو شئنا المصارحة والتحديد حقاً، لقلنا انهم ثلة من الادباء والكتاب والمؤلفين الذين حسبوا على التيار القومي الشائع في تلكم المرحلة، والمتمثل بحركة القوميين العرب وجماعة الناصريين في العراق وحزب البعث العربي الاشتراكي, واغلبهم من الممجدين للزعيم المصري جمال عبد الناصر، لا بمعنى كونهم ناصريين بالاختيار، أي ليس اختيار عبد الناصر لهم بل اختيارهم له، من خلال ركوب الموجة القومية السائدة في ذلك الزمن التي حمل لواءها كبار العسكريين العراقيين القوميين.
ولعل من أخطر سياسات زعيم الثورة في مرحلته القزحية الملونة وضع هذه الثلة العسكرية ذات التوجه القومي المفترس في اخطر وزارات ومناصب الدولة لثلاث دورات متتالية، وهم الذين اسقطوا هذه الوزارات تباعاً، وتآمروا على مناهجه الثورية طيلة زعامته القصيرة، حتى وصل بهم الامر الى استفراده وحيداً الا من رفاقه المخلصين المعدودين داخل اسوار وزارة الدفاع، ثم جرجرته الى دائرة الاذاعة والتلفزيون ومن ثم الاجهاز عليه وصحبه بأعتى مجزرة في تاريخ قادة الشعوب، قد لا تدانيها حتى المجازر الشكسبيرية في تراجيدياته الاليزابيثية المؤلمة.
وكذلك هي تصاريف الوطن!