يعيش المثقف اليوم محنة استقامة تفكيره بما يجري عراقيا، فاللغة المعرفية تتطلب استقرارا ولو بحدود كي تقف على ما يجري، هذه الاجتماعات والسفرات واللقاءات بين اطراف العملية السياسية لا تعني الا الاضطراب في قيم التنظيم وفي بنية المجتمع، ومنذ ان بدأت ظاهرة تغييب الطبقة الوسطى العراقية، حين اقدم البعث الفاشي على تغيير بنية الطبقة العاملة وجعلهم موظفين،وحتى اليوم حيت ادخل العامل الديني أنفه في بنية الطبقات الاجتماعية ليغيرها الى الطائفية ،اختلت موازين الفهم لبنية المجتمع العراقي، فلم يعد الحديث عن الطبقات التي لن تغيب عن البنية الإجتماعية حتى لو تغير اسمها وضعف الإنتاج وتعطلت المعامل، لتصبح هذه الطبقات باسماء ايديولوجية جديدة تعبر عن ايديولوجية السلطة المهيمنة، الآن لا يعرف المثقف عمن يتحدث ولا عن الكيفية التي يتحدث بها إذا كانت شخصياته عمالية او مثقفة او برجوازية صغيرة او موظفين او فلاحين، فالسمة الدينية عندما تتغلب على الفئات الاجتماعية وتخضعها لقانونها الديني تضيع عن عمد التسميات العلمية للطبقات الاجتماعية وبالتالي لا تصبح لغة او لهجة معينة تصف هذه الفئة او تحدد خطابها، هذا الاختلاط وضياع الحدود بين الفئات الاجتماعية هيمن من جديد ليغير مسميات الطبقة الوسطى فبدلا من القومية اصبحت الطائفية الدينية، وما يتفرع عنها من مسميات ثانوية مناطقية وعرقية، لذلك لن تصلح اية لغة لتأليف قصة او رواية او مسرحية، عن هذه الظاهرة إلا إذا كانت قضية بحد ذاتها، فسوف يتغلغل الاضطراب المعرفي إلى لغة ومواقف وافكار الشخصيات وبالتالي لا يمكننا ان نعثر على نص أدبي يحمل سمات المرحلة بوضوح.
بعض المؤلفين يهربون من هول هذه الظاهرة وعنفها اللا معروف، إما إلى الذات، وإما الى الذكريات، وإما إلى التاريخ، وإما إلى الخيال والفنتازيا والشكل اللامحدد، ومن هنا نجد أن ادب المرحلة يعيش حالة ازدواجية؛ التشبع بالثقافة الفنتازية الغرائبية من جهة، والبحث الشخصي عن ملامح شخصية غير مستقرة فكريا وطبقيا من جهة أخرى. والسبب هو ان الشخصية العراقية وهي تنغمر في اللاتشكل، عادت إلى الجذور الدينية والتاريخية وفقدت صلتها بالحاضر، ولذلك لن يجني النقد شيئا مهمًا من ظاهرة التأليف المعاصر إلا بحدود انه يشخص مرحلة اضطراب المفاهيم وضياع بوصلة الحدود للشخصيات وللأحداث وللطبقات.
في الستينيات وصولا إلى نهايات القرن العشرين كان الخطاب الثقافي خطابا معرفيا، محددا بنوعية من يتكلم ومن يستلم الخطاب، وكانت الرسالة التي هي النصوص التي تعرف طريقها إلى القراء كما تعرف طريقها إلى المجتمع، ولذك كانت الايديولوجيا العامة للإنتاج الثقافي تقدمية، عدا فترات الحرب التي بدأ فيها تشويه الخطاب وحرفه عن هويته التقدمية عندما ارتبط بالسلطة، اليوم ليس من سلطة مشغولة بالخطاب الثقافي، ولكنها من الواضح انها اكثر تخريبا من سابقتها، عندما الغت التفكير جذريا بالثقافة الوطنية والاجتماعية فغيبت عن عمد مفهوم الطبقات والفئات والشرائح، واستبدلتها مجبرة بالطائفة والعشيرة والمنطقة، وفي هذه المسميات تختلط كل الفئات المتميزة في بوتقة الطائفة، وقد شهدنا تأثيرها على مؤسسات السياسة العامة كالبرلمان والحكومة والتعيينات والوظائف.
ما الذي يجب على المثقف أن يشخصه في مثل هذه الوضعية،؟ هناك عشرات الطرق لفهم هذه الظاهرة المدمرة للنسيج الاجتماعي ، واول الطرق هو الانتباه لضررها النفسي والفكري مستقبلا، عندما يصبح الدين طريقة احادية للتفكير، فضياع وانعدام الفنون المختلفة من حياة المجتمع دليل على ان السياسة الثقافية تتقصد تضييع هوية الطبقات الاجتماعية، املا في أن يصبح الجميع يتكلم لسانا واحدا، هو اللسان الديني الطائفي.

عرض مقالات: