هل الإعلان عن المواطنة - مواطنة الأديب عامة والقاص والروائي خاصة - لا يمكن التعبير عنها إلا عبر الحديث عن قباحة الحروب ودونيتها والتخلي عن جماليات الحياة وعدم الاحتفاء بمفرداتها؟
الكثير من كتاب القصة القصيرة - العراقيين تحديدا - وبسبب الحروب المتكررة وبسبب تحول أرض السواد - بلاد ما بين النهرين - إلى ساحة للصراعات غير المحلية، العراقية، تلك الممارسات التي شكلت تراكمات هائلة من الأحاسيس المتوافرة التي تتحرك حول الحرب ومسبباتها ونتائجها!
العراقيون يتوافرون على كم هائل من الذكريات ويجد المتابع أن كائناته تسبح وتعوم في محيط من منتجات الحروب. والتي قد يتابعها البعض ليجد نفسه وسط آلاف من السنوات المشبعة بالمقاتلين والقادة والمعارك والتي توزعت على مسببات قد تنتمي للجغرافيات مرة أو للأديان مرة أخرى وللاقتصاد مرة ثالثة، فذكورة الشرق من أقصاه إلى أدناه مشغول باستخدام القوة في حل الإشكالات على المستوى الداخلي، المحلي أو الخارجي، الإقليمي - حتى تحول الوطن إلى مجموعة تماثيل لمعارك لا ناقة للمواطن فيها ولا جمل.
المواطن العراقي بغض النظر عن انتماءاته الدينية والعرقية قد لا يتمكن من أن يجد نفسه خارج هذا التاريخ الطويل العميق الضخم أنه المادة الدسمة الجاهزة لكي تتحول إلى نصوص وحكايات ومادة للسرديات، فلا غرو اذًا من ظهور فن السرد في العراق - تحديدا - سواء عن طريق الوضع ككتابة المقامات أو النقل، الترجمة.
لقد كانت ذهنية الأب، السلطان، الخليفة، الأب، الأمير الحاكم بأمر الله تتحرك أو تقف خارج تفاصيل وذهنيات المواطن الذي لم يجد له مكانا سوى الهامش في النص القصصي العراقي آنذاك!
هل من الممكن اذن أن يقول قائل ما: ان القاص يكتب بعيدا عن الضحية، الجلاد؟ لا أعتقد ذلك، فالقاص كائن كسواه من العامة إلا حالات الاستثناء - عندما يكون من الخاصة - أي عندما يكون راكبا قطار الجلاد، الجلاد الذي يجب أن لا يخرج عن دائرة الحاكم الجائر، الحاكم الشاطب الآخر؟ عند هذه النقطة سوف يكون القاص حاملا صخرته! تلك التي تشكل جزءا ثابتا من كينونته، تلك التي سوف تحوله إلى كائن انقلابي لحظة تحل أفعال المبادلة، عندما تسقط التماثيل القديمة في هذه اللحظة القاص، سيزيّف في صناعة البطل، الأب بتحويل زميله، صورته الأخرى، مثيله في تحمل الظلم والجور إلى جلاد مع محاولة معاينة - الانا - على أنها الخارجة من فضاء المظلومية! ليتساءل اذا ما خرج المظلوم، الضحية من سلطة الظالم، الجلاد ما الذي من الممكن أن يفعله؟ البقاء على ما هو عليه أمر غير وارد! لا بد اذا من مغادرة هذا الموقع مع استرداد ما تم تغييبه.
عندها نجد المواطن، القاص نفسه أو شخصياته، بعلمه أو بدون ذلك، بقصديّة أو بغيرها جلادا أو كائنا يشبه هذا، إلا الاستثناء - الذي يمتلك من الوعي والمعرفة كبديل للتاريخ، الماضي! ماضي وتاريخ الضحية الذي من الممكن أن يعيد تشكيل كينونته خارج قانون الظالم و المظلوم أو الضحية والجلاد.
الوقوف، الاستثناء هذا هو ما ينتمي إلى هوية الكتابة، الإبداع حيث يتحول الماضي إلى عامل مساعد - كما الأوكسجين يساعد على الاشتعال ولا يشتعل، حيث تبدأ مهمة المبدع في صناعة المستقبل بعيدا عن السلطان والأنساق والأنماط التي تحول الكائن البشري الى كائن حيوان مجموعة عواطف وغرائز وشهوات ورغبات كائن بعيد عن المعارف والأفكار والوعي والإدراك.
هل استطاع القاص العراقي - بعيدا عن الاستثناءات -أن يكون هذا الكائن الذي ينتمي إلى شيء من الاستقلالية رغم وجوده في لجة الحدث؟ انه الكائن الذي يطلق عليه الثائر المستقل الذي يصنع التاريخ للآخرين الذين لم يتحولوا بعد إلى مجموعة من الجلادين - سواء لأنفسهم أم للآخرين - الذين تخلصوا من دور الضحية من انعدام الرغبة في التحول إلى جلادين ومن شروط التخلص من سلطات الشطب التخلص من قباحة الماضي والبحث عن جماليات المستقبل!
من أكثر السلطات قدرة على تشتيت فعاليات الكاتب الإبداعية هي الواقع واحتيالاته على الإنسان الأبيض، البريء، الطيب - الساذج - في أن يتحول إلى أكثر من مفصل ضمن التشكيلات الحياتية لهذا الكاتب مع وجود من يوجه أو يوحي أو يشير أو يبشر حيث يتحول هذا الكائن إلى تابع ، مسلوب! كائن يسيره فرد أو زمرة أو منظمة أو سياسة أو دين، أو ثقافة أو اقتصاد في الوقت الذي يجب عليه أن يكون في قلب الحدث وخارجه كذلك وفي نفس اللحظة.
وقريبا من هذه العلل، أو بعيدا عن هذه الأسباب سيجد القارئ أن القاص يحاول التخلص من الماضي عبر نشره، الإعلان عنه والادعاء أن الذي بين يدي القارئ ما هو إلا السيرة التابعة للآخر "سواء كان صديقا أو خصما" والآخر الذي في ذهنية القارئ هو غير الآخر الذي في ذهنية الكاتب.
القارئ يذهب إلى النص للبحث عن نفسه فيجد آخر لا يشبهه، لذلك لا يستجيب لطموحاته وليتحول النص القصصي إلى نص فاسد، نص مستهلك، متعب، غير قادر على مسايرة القراءة ومواصفاتها ومتطلباتها.
قد لا يكشف الكاتب هذه الحقيقة المفترضة، حقيقة وقوفه خارج بستان الإبداع، داخل حوض القدامة ، حيث بدايات الكتابة ، حيث يجد الكاتب نفسه معنيا بالكتابة عن كل ما يحيط به من أمور الحياة "محاسنها ومساوئها! ايجابياتها وسلبياتها، ما يعنيه وما لا يعنيه" فلا يترك شاردة ولا واردة إلا أوجب حضورها بين يديه ، ليكتب من غير انتقاء أو اختيار ، حيث تكون المغامرة ، المغايرة بعيدة كل البعد عن طموحاته التي حددها بفضاء الجسد الذي يحمله، وفضاء التأريخ الذي ينتجه ، بعيدا عن شعار "الضرورات تبيح المحذورات" القانون الذي ينتمي إلى الفعل الشعري، فما دامت كتاباته تتحرك بعيدا عن ضروريات الحياة ، فصناعة المحذورات ، الممنوعات أو ما يتوجب الحذر، الصدام لا موجب للعمل به أو الذهاب إليه وكفى الله المؤمنين شر القتال.

عرض مقالات: