بعد أن وضعت حرب الخليج الثانية أوزارها ودخل العراق في مرحلة الحصار الظالم كانت مجلة الأقلام العراقية التي يرأس تحريرها آنذاك الناقد د. حاتم الصكر قد كلفت الشاعر رياض ابراهيم بالذهاب الى البصرة وإقناع الشاعر الكبير محمود البريكان بالخروج من عزلته التي استمرت لأكثر من ربع قرن من الزمان، لم ينشر البريكان الشعر الذي يكتبه ولم يلتقِ بأحد، لكن رياض ابراهيم استطاع ان يخترق عزلة البريكان ويخرجه منها ولو لبضعة أيام، وجاء محملاً لمجلة الأقلام بالعديد من القصائد الجديدة وغير المنشورة وكذلك أجرى مع البريكان حواراً مطولا عن تجربته الشعرية التي لا تقل أهمية وإبداعا عن شعرية السياب ابن مدينته البصرة. كنتُ مع رياض ابراهيم في رحلته الى البصرة عام 1993 والتقينا البريكان واستمعنا لحديثه الشيق والممتع وجمال قصائده التي نشرتها مجلة الأقلام وبخاصة قصيدتة التي بعنوان "رحلة القرد".
جاءت عزلة الشاعر البريكان جراء تصرفات نظام البعث الذي حكم البلاد بالحديد والنار وكان البريكان صاحب موقف مشرف فلم يشترك بمهرجانات المربد ورفض كل مغريات السلطة وفي واحدة من قصائده قال: "قدمتموا لي منزلاً مزخرفاً مريحا، لقاء أغنية تطابق الشروط، أوثر أن أبقى على جوادي وأهيم من مهب ريح إلى مهب ريح". كان يدين سياسات النظام القمعية وقضى حياته كأستاذ للغة العربية بمعهد المعلمين في البصرة حتى احالته إلى التقاعد بداية العقد التسعيني.
تأثر الشاعر محمود البريكان في بداياته الأولى "بكتب جده" الذي كان يمتلك مكتبة كبيرة داخل البيت تحتوي على مجلات وكتب أدبية ومنها بدأت قراءاته وحبه الشعر، ومن العزلة الى الموت ذهب الشاعر قتيلا، ففي آخر سنوات الحصار على العراق تسلل لصٌ إلى بيت الشاعر البريكان ليسرق بيته ويطعنه بخنجر ويموت قتيلا، كان ذلك عام 2002! انها نهاية مأساوية لشاعر كبير ولكن بطريقة خيالية لا تحصل إلا في الأفلام والمسلسلات لكنها حصلت مع الشاعر البريكان للأسف!
تربط البريكان علاقة صداقة طيبة مع بدر شاكر السياب، وكم كان يتأثر السياب حين يستمع لقصائد البريكان، وما قصيدة حفار القبور السيابية إلا من إيحاءات قصيدة البريكان التي حملت عنوان: "أعماق المدينة". كان قد سمعها السياب وانبهر بها وهو يردد "هذا هو الشعر" وبعد فترة قال للبريكان ان حفار القبور من وحي قصيدتك أعماق المدينة.
محمود البريكان شاعر رائد لا يختلف عن السياب او البياتي او نازك الملائكة في ريادة القصيدة الحديثة لكن عزلته أبعدته عن الأضواء وبالرغم من ذلك ظل البريكان شاعرا مجددا ورائدا من رواد الحداثة الشعرية، أذكر في أواسط التسعينينات قال لي البياتي وانا احدثه عن قصائد البريكان التي نشرها رياض ابراهيم في مجلة الاقلام، قال: في احد مهرجانات المربد اواسط السبعينيات في البصرة ذهبت الى بيت البريكان ومعي احد الشعراء العرب وعندما طرقنا الباب خرجت صبية صغيرة قالت لنا بطريقة ملقنة ان محمودا ليس في البيت.. البياتي يقول، عرفت أنه مازال في عزلته ولا يحب اللقاء بأحد! ولم ينشر البريكان شعره إلا القليل جدا وقد اختفت الكثير من المخطوطات الشعرية بعد مماته.
أعود الى قصيدة البريكان "رحلة القرد" التي قرأتها في أوراق رياض ابراهيم قبل أن تنشر في المجلة عام 1993 وأعدت قراءتها أكثر من مرة حتى أنني أحسستُ بعذاب القرد في رحلته الى السيرك الذي جاب شوارع المدينة والناس تنظر إليه بريبة فيما عجلات الشاحنة التي تحمل قفصه في آخرها ما بين صعود ونزول زادت على القرد الكثير من الآلام. الشاعر أراد من القصيدة ان نتحمل نحن القراء معاناة القرد قبل ان يصل السيرك!
الشعر فعل الإستعارة كما يقول سركون بولص، أو الشعر يستنطق الأشياء ويرتدي ثياب المأساة سواء كانت انسانية ام حيوانية وهنا تكمن عظمة الشاعر في الانتصار للمظلوم وان كان من خلال الشعر. القرد من داخل قفصه الخشبي الذي تجره الشاحنة الطويلة كان يبدو عليه الهدوء وهو ينظر من حوله فيقول الشاعر البريكان في مقطع من قصيدته "رحلة القرد":
داخل القفص الخشبي
في مؤخرة الشاحنة
يقبع القرد. يبدو عليه الهدوء
يتفحص ما حوله
تنطوي تحته الأرض مسرعة
تتباعد عنه المناظر،
يحلم القرد بالغابة النائية
وأراجيحها..

عرض مقالات: