قراءتي الثانية للرواية كانت برفقة عنوانات المعزوفات الواردة في الرواية، استعنتُ بنظام غوغول واصغيتُ لباخ من خلال "الآلام حسب إنجيل متى" ولباخ أيضا "توكاتا" و"ذهب الراين" لفاغنر، و"نوكتورنه" لشوبان و"مشاهد من طفولة" وكذلك "الشعراء يتكلمون" لشومان والعازف هو عبد الرحمن باشا.
(*)
كم هي قدرة الإنسان على أن يكون إنسانين في جسد واحد؟
وهل من أحد منهما يتطفل على الآخر؟
هذان السؤالان هما: الخلية السردية الموقوتة في الرواية، والسؤالان لم تجترحهما قراءتي بل مثبتان في المائة الأولى من الرواية، وهذان السؤالان سيحرثهما هاني العاصي بمسروداته النحتية:" أسأل نفسي عن المخبأ الحقيقي للجرح وقد أمضيت العمر أبحثُ وأبحث لأطمره في أماكن سرّية من الصعب نبشها، حيث يهرع كل إنسان للاحتماء فيها إذا ما اعتدي على كبريائه. هذا الجرح يغدو كيانه، لا إرثاً من سفر التكوين بل من غدر الزمان هو، لقد جعلت منه فنّي. منحوتاتي هي جرحي". ويمكننا حينما نتجاوز الثلث الأول من المائة الثانية من الرواية، نضيف سؤالا آخر وهو "هل يتصالح الإنسان مع ذاته حين يسمع ما حدث لسواه؟" هذا السؤال لا تجيب عنه قراءتي، بل حيوات كل من: الزنجي روكو، الألماني فريدريش هيرمان، مريم الكفيفة وحفيدها السائق منيف، من هؤلاء وسواهم ستنتصب منظومة العلائق البشرية المتحدة مع جراح هاني العاصي:
*
روكو ــــــــــــــــــ هاني
*
فريدريش هيرمان ــــــــــــــــــ هاني
*
منيف ــــــــــــــــــ هاني

(*)
هاني ينخر روحه جرح جسده السري، ويحاول التشافي منه، من خلال توليد طفولة جديدة له، بواسطة رحِم زوجته، وهو يعترف بهذا المجاز السيكولوجي للمحلل النفسي تلميذ فرويد قائلا "عليّ أن أستعيد طفولتي الفاجعة في عتمة الخوف. كنت أتوقع أن تلدني من رحمها، فأتعلّم ألف باء الحياة من لحظة التكوين.." لكن هاني وهو يقذف كرته، حقق هدفا لصالح زوجته وانتهك سره بيده، وهذا الانتهاك أشد شراسة من انتهاك الأب لعذرية ولده هاني والاستمرار في الانتهاك: "فأي قرد هو هذا الوالد الذي يغتصب ابنه تحت التهديد وحرمانه من العلم والعيش أمام سكوت الأم وتغاضيها عن قضية عائلية تستحق المثول أمام المحاكم". فذلك الانتهاك كان مغلقا عليه في بيت العائلة والأصح بتواطؤ أو عدمية الضمير وبقية العائلة التي تريد الحفاظ على نصيبها من الثروة الهائلة لهذا "الأب!" يوسف العاصي المجرد من الأبوة، يعيش في مثنوية مقبوحة "رجلان في واحد: الشخصيّة الفذّة، المزدهرة، المحاطة بالتقدير والاحترام، سفير فوق العادة للخدمات الجليلة التي قدمها لفرنسا، وأخرى خفية، تخفي عاهاتها خلف الوجاهة والثراء" أما زوجة يوسف العاصي والدة: رمزي ويمنى وهاني، فهي نسخة بشرية من الأصل الأسطوري تتراسل مرآويا، مثل الشريرة في "أسطورة، الجميلة النائمة في الغابة، متعجرفة مثلها قاسية مثلها.." وبشهادة هاني أيضا "لم يكن لي مكان في حضنها، تنادي مينا لتأخذني عنها، ولا أفهم، فأعبر عن هذا التخلي بالبكاء..".
(*)
هاني الولد الضحية لا أحد يدافع عنه في بيت العنكبوت، شقيقته يمنى، حين قرر هاني الرحيل بتحفيز من صديقه روكو، وجاء ليودعها تزجره قائلة "ميوعتك وخنوعك يثيران اشمئزازي أنت من طبيعة هذا الوحش وشذوذه وإلاّ.." أما شقيقه رمزي فهو أيضا "الأخ الذي صمت على جراحي وتكتّم على إفشاء جريمة شنعاء كانت تقترف بفعل الزنى المحرّم على ولد عاجز عن الدفاع عن نفسه، مهددا إن حكى، بأن يحرم من المدرسة والطعام.." لكن مقارنة ببقية العائلة، فإن رمزي هو الأشرف والأكثر نبلا وأخوة وهو الوحيد الذي واجه الوالد القرد، مرة واحدة صائحا به: "كفى ما فعلته به، دعه وشأنه الآن علّه يلملم أشلاءه ويغتسل من آثامك.." هذا الأخ هو الأخ الأبوي الذي سيكون ضوءا وضمادا لشقيقه حتى الممات، وتعويضا عن استهتار الأم ونذالة الأب كان شقيقه رمزي التعويض الرحيم، به أحتمي في سريره من الوحش الذي اختارني فريسة ً رخصة لشهواته الشاذة".
أما شقيقته يمنى فقد كانت صادقة وجائرة، بشهادتها في رسالة لشقيقها هاني وهو في الدير "أخي هاني، لِم كل هذا العداء الذي اقترفته بحقّك؟ السؤال مازال يطاردني حتى بعد أن اختبرت الحياة الزوجية" ثم تعترف في الرسالة ذاتها "كنّا نرى ونقشع وتقشعرّ نفوسنا الصغيرة لعوائك، وتعود في اليوم التالي قسراً إلى هذه الذبيحة، حتى مقتك كما مقّت أبي.." ويمنى ضمن تبئير هاني: "وجه قاس وطبع متغطرس، ويمنى"، لم تكتف بصد هاني حين قرر مغادر البيت، بل اتهمته بمرضها النفسي الذي سيؤدي بها جنونها إلى شنق نفسها في المصح، فعلى طول الرواية تكرر أسطوانتها المشروخة "لولا هاني لكنت بألف خير".
(*)
إذ قامت ميساء بفضحه وطالبت بالطلاق منه.. "لبست درع المقاومة لمعاقبتي وحملت قصّتنا إلى المحكمة تطلب فسخ زواجنا بدعوى ضدّ إنسان مخادع كتم خطيئة الزنى تحت ستر الزواج" هذه اللحظة الصادمة بصنوجها وطبولها أمام الملأ المدعي بمكارم الأخلاق، سيحولها المحلل النفسي جسرا ومظلة وسلما لتشافي هاني العاصي فهو يطالبه مجابهة الشمس بحروقها ولا يحتمي بفيئها، ويبشره المحلل النفسي "الطفولة التي فيك حيّة، نقيّة، وإلاّ لما كنت أقدمت على الزواج وأسّست بيتاً وأنجبت أولاداً.." لكن الذي ساند ميساء قانونيا، هو الذي سيفضحها مثلما فضحت زوجها البريء هاني وتكون الفضيحة في دار القضاء، بعد مصرع ميساء على يد ابنتها تينا "إني شريك ميساء في الكارثة التي حلّت بابنتها وابنها وزوجها. كنت أنا من زوّر مستندات الملكية وأرغمتها على منع ولديها من السكن في البيت،كنت أنا مرشدها إلى خراب هذا البيت ..".
(*)
من الأم ميساء، والأم يمنى، وبسبب الجريمة الجنسية التي كان يرتكبها الأب مع ابنه هاني: تدفقت ظلال قاتمة من ميساء زوجة هاني على ولدها جاد ويمنى شقيقته على ولدها جوليان، وهكذا تبأر الولدان "في نوايا ميساء الجهنمية، وهواجس يمنى المريضة،التقيا في خطيئة الشّك المميتة: المس برسالة الأبوة المقدسة".
(*)
هاني العاصي: هو نسق الواحد المتعدد، وهذا ليس تأويل قراءتي المنتجة، بل منطوقات سردياته في النحت، وتحديدا منحوتة الطفل الماد يديه إلى الأمام، حركة الطفل الإيمائية توحي بالعمى كما توحي بفاعلية التحرك إلى الأمام، وهناك تكون اليدان عينيّ الولد، لكن التأويل استناد إلى جريمة الأب، يعني أن اليدين تحاول إنقاذ الجسد، انتزاعه من نذالة والده يوسف العاصي - حسب قراءة جاره الألماني - هناك قراءة أخرى "هذه الثنائية وإن فُرضت عليك، ظاهرة في أعمالك: الأمومة المفقودة، الطفولة الضائعة ..".
(*)
صديقه الزنجي الناصع روكو، هو الوحيد الذي رممه من الداخل، مَن خيط تمزقات روحه، وهو الذي علمّه على كوجيتو الثورة "أنت ثائر يعني أنت حي"، وروكو هو الذي لقنه تعاليم التحرر "قضيّتك ليست على صعيد وطن ولغة وهوّية، إنها مختصرة في جسدك، فأينما ذهبت لن يكون لك وطن، بل ما هو أثمن منه، حريتك تعتقك من واجباتك الوطنيّة القاسية" وبشهادة هاني "روكو كان أكثر من صديق. كبرنا معا حتى كدت أتلوّن ببشرته الداكنة"، لكن روكو المناضل والقنصل لبلاده ساحل العاج في ميونخ، تعامل مع حبيبته وزوجته البيضاء أثناء الجنس كما كان يتعامل مصطفى سعيد في "موسم الهجرة إلى الشمال" للروائي الطيب صالح.
(*)
للسرد تنويعاته التي يمكن حصرها بالشكل التالي:
*
اعترافات هاني السريرية في الجلسات العلاج النفسي لدى يان غروفيش تلميذ سيغموند فرويد، لكن هذه الجلسات لها مضارها أيضا، لأن "اكتشاف اللاوعي، لا بدّ أن يفاقم الجرح النرجسي الذي يذكّر الإنسان بوجوده، فلا يعود الأنا سيداً في منزلك".
*
سرديات الصلصال: تجسدها منحوتات هاني العاصي
*
سرديات الرسم بالموسيقى
*
سرديات سيمون عشيقة هاني
*
سرديات اللا مرئي والغيب: مريم الكفيفة
*
ما يسرده فريدريش هيرمان عن صديقه هاني من خلال منحوتات هاني
*
سرديات فريدريش هيرمان من سيرته الذاتية
*
ما يسرده حفيد مريم الكفيفة من سيرته
*
تدوير السرد من خلال الكتاب الذي يكتبه هاني عن سيرته
*
تدوير السرد بخصوص طرد مريم الكفيفة من بيت الثري الإنطاكي زوجة جيهان فيرد ذكر طردها في صفحتين.
*
تدوير الفن، فمنحوتة الطفل الماد يديه إلى الأمام والتي تشغل مكانة المهيمنة بلغة السرد هذه المنحوتة خضعت لتدوير ضمن الابداعي الفني وبشهادة هاني.
*
سرد الرواية الواعية بذاتها، وسيكتبها هاني في السجن واتهم نفسه بقتل زوجته ميساء حتى لا تسجن ابنته التي قتلت أمها.
(*)
رغم الوجع الشرس الذي اجتاح هاني مبكرا فإنه عاش سعادات باريس وطمأنينة رهابنية الدير في لبنان، وانتصاره الأكبر بجائزة العظمى: المفتاح الذهبي لمدينة ميونخ فهو عاش ما تحت السطح من خلال، الأمكنة الثلاث تتجاور مع اللاوعي
*
الدير
*
القبو
*
السجن
(*)
هذه الوفرة بالشخوص في رواية "تماثيل مصدّعة" للكاتبة منى منسي وهذه الجغرافيا الوسيعة التي يتنقل فيها شخوص الرواية من ساح العاج إلى مرسيليا ومنها إلى لبنان ومن لبنان إلى باريس ومنها إلى ميونخ.. هذه الوفرة والسعة الجغرافية والوجع الأممي بين الشعوب والتشافي عبر الفن من رسم وموسيقا ومشتقتهما ليس غريبا على المشغل الروائي للروائية منى منسي، فهي تعيد إلى عوالمها في الوقوف الجمالي ضد الاستبداد في روايتها "حين شق الفجر قميصه" وعلاماتية الولد الماد يديه إلى الأمام تعيديني إلى العلاماتية التالية:
"
قبعة قش بشريطتها الزرقاء كانت تتصّدر جدران هذا البيت وعرق الوزال الذي أيبسه الزمن، كان في نسيج القش، شاهدا على فتاة تركت قبعتها ذات زمن على ضفة النهر ومضت إلى موعدها حيث بحّار آت من الشمس في انتظارها مي منسى، حين يشق ّ الفجر قميصه"
(*)
حين انتهيت من قراءتي الأخيرة وهي ليست الثانية، اختزنت ذاكرتي: حدوس مريم الكفيفة، وعذابات فريدريش هيرمان، واستوعبت المعنى العميق لمفهوم: الثراء الفاحش الذي جسده يوسف العاصي بنذالته وبشرورها جسّدته زوجته ليندا وأصغيت لمعزوفات جوليان عبر مخيلتي..

عرض مقالات: