يُعد الشاعر جبار عبيد الشطري واحداً من أهم الشعراء الشعبيين الذين أنجبتهم مدينة الشطرة، ففيها وُلِد وترعرع وعاش فيها أيام طفولته وصباه حتى إرتحلت عائلته من مدينة (الشطرة) إلى مدينة (البصرة) فكانت البصرة نافذته التي أطلَّ من خلالها على الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية للبصريين الذين أحبُّوه وأحبَّهم وشاركهم آلامهم وآمالهم وأحبَّ طيبتهم وبساطة عيشهم واحتفوا بمنجزه الشعري الرصين والملتزم بقضايا الوطن ومعاناة أبنائه، ليكون واحداً من الأسماء المهمة في قائمة شعراء البصرة الفيحاء ونجماً متلألئا في سماء الشعر الشعبي البصري بصورة خاصة والشعر الشعبي العراقي بصورة عامة.

وعاش في البصرة أسعد أيام حياته، إلاَّ أنَّ حالة الاستقرار العائلي والعاطفي هذه لم تُطفئ جذوة حسِّه الوطني وشعره التحرري، فكان لا يدع مناسبة إلاَّ ويعبَّر من خلالها عمَّا يجيش في صدره وما يعتمر في قلبه ووجدانه من لواعج إنسانية نتيجة لما يتعرض له أبناء جلدته من قمع وتعسُّف واضطهاد، ولكن .. كيف السبيل لإيصال رسالته الإنسانية والوطنية والسلطة لها ألف عينٍ وألف أذن؟ كيف يُمكنه المشاركة في المهرجانات الشعرية وقد سبقته مواقفه المناوئة للسلطة وأزلامها؟ كيف يمكن له أن يوصل صوته الهادر حاملاً رسالته الإنسانية ولكل مهرجانٍ أكثر من رقيب؟

فما كان من شاعرنا(جبار عبيد الشطري "رحمه الله") إلاَّ أن يلجأ إلى طريقة ذكية في التعامل مع الرقيب، فكان (رحمه الله) يقدم نصاً شعرياً للجنة فحص النصوص يحصل من خلاله على موافقتهم لاشتراكه في المهرجان بعد أن يتم فحص نصٍّه بصورة دقيقة وتأكدهم من خلِّوه من كافة المحذورات، ولكنَّه حينما يعتلي المنصَّة (وهنا بيت القصيد) كان يقرأ نصَّاً شعرياً آخر مُغايرا لما تم فحصه من قِبل الرقيب، ويضرب بعرض الحائط جميع محذوراتهم التي كانت تُقيِّد الحريات وتكمم الأفواه، وبعد نزوله من المنصَّة يتم إعتقاله من قِبل أزلام النظام مباشرة، ومن شجاعته واستهزائه بهؤلاء إنَّه كان يعلم علم اليقين نتيجة ما يترتب عليه اختراق اللوائح والالتفاف عليها.

غادر مدينة (البصرة) مُكرهاً بعد أن صدرت الأوامر بنفيه إلى مدينة (الشطرة) بسبب قصائده التي كانت تعبر عن مواقفه الوطنية ولكونه شاعراً يمتلك فكراً يسارياً ونشاطاً سياسياً له وقعُه المؤثر في أغلب الشباب المثقف من أبناء مدينته.

 ولم تكن (الشطرة) مدينة غريبة عنه ففيها الكثير من أقاربه وأصدقائه ومريديه، وهي على صِغَر مساحتها مقارنة بالبصرة إلاَّ أنَّها لا تقل بأساً في الحراك السياسي آنذاك عن (البصرة) إذ كان يطلق عليها اسم (موسكو الصغرى) وذلك لكثرة من انتمى من أبنائها الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي، ومن هنا فقد كانت الشطرة بالنسبة إليه متنفساً جديدا إستطاع من خلاله أن يحلق عالياً في عالم الشعر الشعبي نتيجة لما تزخر به هذه المدينة من مجالس أدبية وفكرية أسهمت في الإرتقاء بالذائقة الأدبية، حتى لتجد أبسط البيوت في هذه المدينة لايخلو من مكتبة حتى وإن كانت بسيطة مما حفَّز الشعراء لأن يبدعوا أفضل ما تجود به قرائحهم لمجاراة زملائهم الشعراء من جانب ومن جانبٍ آخر فإن القصيدة التي يستحسنها أهالي المدينة يتم ذكرها طويلا في مجالسهم وتتردد على شفاه رجالهم ونسائهم، كبارهم وصغارهم، فقد كان يقرأ في منتديات الشطرة آنذاك قامات شعرية مهمة وشعراء لهم مكانتهم المرموقة في الساحة الشعرية العراقية من أمثال: عريان السيد خلف، فايق عبد سعدون، زامل سعيد فتاح، شاكر حِسَن، وعبد الواحد الهلالي، والشاعر الكبير كزار حنتوش... وغيرهم كثير، فكان نتاجه الشعري يرتقي إلى مستوى هؤلاء الأفذاذ إن لم يتفوق على بعضهم، فكان شعره يفصح عن قريحة خصبة وخيال واسع يؤطره بعفوية تجعل إدراك المتلقي ينتقل بين مفردات قصائده بانسيابية عالية تعزز من الفكرة الرئيسة للنص محاولاً الامساك بكل التفاصيل المؤدية إلى التأثير بوجدان المتلقي وأحاسيسه ناشراً شذى عذوبة شفيفة يستمدها من عذوبة ونقاء روحه المعطاءة لتفيض على قصائده جمالاً وألقاً وإبداعاً.   

وما زالت الذاكرة تحتفظ لشاعرنا الكبير(جبار عبيد الشطري) بعدد من الأبيات من قصيدته (ميسان ذات العطاء السمين) التي نال بعد قراءتها (شرف الاعتقال)، يقول فيها :

ميسان يا نبعة سوالفنه المشفجه وهذا حالي....

نشغتچ بضلوعي تسري وحيل تسري وماني سالي.....

لملمت شكباني وانطيت الوجه صوب المجرَّه

ولن صريخ الحرمه عطابه على جمره:

ياابني بالك على روحك شوغة الأيام گشره

لا تسولف سرَّك الغيرك، يچبره

وانته أدرى مشاگف العريان ستره

الدنيا غبره.... الدنيا غبره

لاتگول الصيف حار، الشتا بارد، هاي كفره

واليگول الصيف حار يضيج گبره

ولاتگول الخبز دين إحمد الباري واشكره

ولاتگول فلان زين ضلعك المكسور اذكره

ولاتگول الأسود أسود، گول أبيض وانته تبره

ياابني لا تحچيش هيچ وافج وأيِّد ابعشره

الدنيا غبره ....الدنيا غبره

ـــــــــــــــــــــــــــــ

رحم الله شاعرنا الكبير جبار عبيد الشطري (أبو خالد) والد الأخت العزيزة المفكرة الراقية (د. خلود جبار عبيد الشطري)