أحد أصدق الشعراء في التعبير عن مأساته وحياته التي عاشها كشاعر متفوق على الشعر في المعاناة حين يصورها داخل كل قصيدة يكتبها وهو الذي عاش الحب والشعر والخوف والمرض والوحدة والغربة داخل الوطن حتى رحيله المؤلم عام 1995 في غرفة بائسة آيلة للسقوط داخل أزقة البتاويين القديمة، انه الشاعر قيس لفتة مراد الذي لم ينصفه النقاد لكن الشعر وحده كان منصفاً لروحه التي تطير وتحلق في سماء الإبداع بعيداً عن الفقر والبعد والموت المؤجل.
كان الشعر بالنسبة لقيس هو المنقذ الوحيد في أشد وأحلك الظروف القاسية التي عاشها وبخاصة في سنواته الأخيرة حين مات وحيداً! فحين انتقل الشاعر من مدينة الناصرية التي ولد فيها الى العاصمة بغداد في منتصف العقد الستيني بعد أن شاهد رئيس وزراء ذلك العهد بعض الرسومات الجميلة وهي معلقة فوق مكتبة المدينة فطلب لقاء صاحبها وجاء قيس لفتة مراد ماثلا امام الرئيس فأمر بنقله الى بغداد للاستفادة من موهبته وكان يكتب الشعر والمسرح والأغنية، فهو شاعر متعدد المواهب ويجيدها بإتقان.
الشاعر قيس لفتة مراد من رواد مقهى "ابو احمد" في الناصرية الذي كان يلتقي فيه بأصدقائه وابناء جيله من الأدباء أمثال عزيز السيد جاسم وخالد الأمين وصلاح نيازي واسماء فنية وأدبية أخرى.
وبالرغم من ان الشاعر مراد لم ينصفه النقد ولم ينصفه الفقر الذي رافقه منذ طفولته لكنه كان الفتى الذي أعطى الكثير من الوفاء والمحبة لأبناء مدينته الناصرية فكان في صباه مسالماً ورومانسياً في هيأته وملابسه البسيطة وهادئ الطباع كما يصفه مجايلوه وكان من أشد المعجبين بشعرية السياب العالية ولم يخل شعره من بعض التأثيرات السيابية في بعض قصائده وعندما نشر ديوانه الأول عام 1966بعنوان "أغاني الحلاج" كتب في مقدمته قائلا: "لم يشدني الى الحلاج تساميه ولا معاناته ولا نهاياته لذات التسامي أو المعاناة أو النهاية، انما أحببت في الرجل انه صورة الإنسان المنفرد عن طبيعة زمنه وعن طبيعة أهله"، ثم أصدر ثلاث مجموعات شعرية اخرى وخزينا كبيرا من القصائد لم تنشر ولم يترك شيئاً مرّ في حياته إلا ودونه قصيدة او بعض الأبيات انه شاعر الألم والحسرة والغربة والفقر، وقد صور الشاعر الغرفة التي سكنها في منطقة البتاويين ببغداد في قصيدته "منفى في زحام الظلمة" فأكد على زيف الغنى الذي سيزول لا محال ويفقد هيبته عند روح الشاعر الذي يسكن في غرفة مكشوفة السقف مستورة بعريه! وعرضة لانتهاكات الريح من خلال شبابيكها البالية والخربة فهي المنفى القسري للشاعر الذي مات في منفاه وحيداً إلا من بعض الأصدقاء القلائل الذين زاروه وهو على فراش الموت.
قد يقترب الشاعر في شجونه من ابن زريق البغدادي عندما ندم على سفره للأندلس وترك حبيبته بغداد وزوجته التي سافر من أجلها وأنشد يستودع الله في بغداد التي ترك فيها قمره وحبه.
قصيدة "مراد" هذه تعتبر واحدة من القصائد المهمة في تاريخ الشعر العربي لما فيها من وضوح في الرؤيا ودقة في المعنى وإبهار في الصور الشعرية العالية التي تسيل مثل شلال ذهبي:"
الحب والشعر وزيف الغنى
وكل ما يرجى وما يفنى
يفقد معناه لدى غرفة
في السطح مثلي في اعتزال الدنا
نائية، مكشوفة الرأس، لا يسترها شيء كعريي أنا
خافت ضجيج الناس فاستفردت
لواذا لتبغي عنده المأمنا
تقتحم الريح شبابيكها ليلا
وتلوي بابها الموهنا
لمّتْ دروب الليل أشتاتها
حولي فرادى غربة أو ثنى..

عرض مقالات: