إنما الأمم الأخلاق ما بقيت...فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا

 انتشرت في الآونة الأخيرة أخبار مقلقة على وسائل التواصل الاجتماعي حول انتهاكات للنزاهة الأكاديمية والأدبية من قبل الطلاب والباحثين، مثل الغش والانتحال. تثير هذه الانتهاكات مخاوف حقيقية بشأن صدق ونزاهة الطلاب، ومدى قدرتهم على التعلم والتفكير النقدي. كما أنها تضع ضغوطا إضافية على المعلمين وأساتذة الجامعات والمشرفين، الذين يتعين عليهم تطوير أساليب جديدة لمنع هذه الانتهاكات وكشفها (محمد خليفة وعبد اللطيف خليفة).  بالإضافة إلى ذلك، تشير هذه الانتهاكات إلى تراجع القيم والمبادئ الأخلاقية مثل الصدق والنزاهة والاحترام والمسؤولية. فعندما يشعر الطلاب أن الغش والانتحال أمران مقبولان، فإنهم يرسلون رسالة مفادها أن هذه القيم ليست مهمة.

 بالإضافة الى الانعكاسات الخطيرة لظاهرة الغش والانتحال في عملية التقييم من تضليل للنتائج، وفقدان أهميتها تعتبر هذه الظاهرة السبب الرئيسي لاستشراء الفساد والجهل المجتمعي، ونمو الأمراض المجتمعية وتدهور الاقتصاد. اما على الصعيد النفسي للفرد، فان نجاح الطالب في الغش والانتحال يزيد من غروره فيصبح الغش عنده أمراً طبيعياً، وتعاوناً بين الطلبة وحقاً مكتسباً وشجاعة يحسدها عليه اقرانه، ولربما يعمل الغشاش والمنتحل والمفترس على تعليم الآخرين السرقة الفكرية والخداع والاستهانة بالعمل الجاد والمثابرة. تصوروا مجتمعا قائما على مساهمات افراد حصلوا على شهادات مزورة وتعودوا على الاحتيال والغش في دراستهم ، هل يمكن ان يساهموا حقا في بنائه ؟ وهل يمكن الثقة بعدم خيانتهم لأهداف المجتمع ولمصالحه الحيوية؟ وهل يمكن الاعتماد على كفاءتهم ومؤهلاتهم الفكرية والعلمية والمهنية؟ اليس هناك صحة في تصور ان الغش مسؤول عن التخلف الذي يعاني منه المجتمع، وبأن الغش قد ينتج "متعلمين جهلة" او "عقول مغلقة" او افراداً عاجزين عن تقديم أي مشروع نافع للبلد مهما بلغوا من درجات وظيفية او مهنية عالية. ألا يمكن ان يكون سبب عدم معرفة الطبيب شيئا عن الأمانة الطبية، أو القاضي عن العدالة، أو المسؤول الإداري عن الانصاف والنزاهة، أو الأستاذ عن الاخلاق الاكاديمية يعود الى جرائم الغش التي تعودوا عليها في الامتحانات خلال دراستهم المدرسية والجامعية؟

 أهمية تدريس الأخلاق

 لقد كتبت سابقا عدة مقالات حول أخلاقيات التعليم والمهن الأخرى. نشأت رغبتي بالكتابة مرة اخرى حول هذا الموضوع نتيجة لطلب أحد الأصدقاء، وهو أستاذ جامعي متميز، مصادر حول الأخلاق وتعليمها، ورأيت أهمية الموضوع في الوقت الحاضر وضرورة توثيق الأفكار المعاصرة حوله.

 تدريس الأخلاقيات هو عملية مساعدة الطلاب على تطوير المهارات والمواقف اللازمة لاتخاذ القرارات الأخلاقية والتصرف بمسؤولية في ظروف مختلفة. والأخلاق ليست مجرد جزء من التعاليم الدينية أو فرع من فروع الفلسفة، بل هي ممارسة مهمة في الحياة اليومية. يذكر د. عبد اللطيف خليفة في كتابه "اخلاقيات التعليم" بأن "الأخلاقيات هي مجموعة من المبادئ والقيم التي تنظم سلوك الإنسان في المجتمع. وهي ليست مجرد مجموعة من القواعد التي يجب الالتزام بها، بل هي أيضاً أسلوب حياة يعتمد على الصدق والأمانة والمسؤولية والاحترام للآخرين". ولذلك، فإن تدريس الأخلاقيات لا يقتصر على نقل المعلومات، بل يشمل أيضا إثارة المناقشات حول المعضلات الأخلاقية في العالم الحقيقي. كما أن تدريس الأخلاق يساعد الطلاب على الالتزام بالقيم الأخلاقية ويعزز ثقة المعلم او المدرس بهم.

 فوائد تدريس الأخلاق

 فوائد تدريس الأخلاق كثيرة، منها:

  • تطوير مهارات التفكير النقدي والتحليلي: يساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على تطوير مهارات التفكير النقدي والتحليلي لديهم، مما يساعدهم على اتخاذ قرارات أخلاقية مستنيرة.
  • تعزيز قدرة الطلاب على حل المشكلات: يساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على تطوير مهارات حل المشكلات لديهم، مما يساعدهم على التعامل مع المواقف الأخلاقية المعقدة.
  • تشجيع الاحترام والتنوع: يساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على تطوير فهمهم للقيم الأخلاقية المختلفة، مما يساعدهم على احترام وقبول الآخرين من خلفيات وأفكار مختلفة.
  • بناء مجتمع أكثر عدلاً وإنصافاً: يساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على تنمية الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع، مما يساعدهم على العمل نحو بناء مجتمع أكثر عدلاً وإنصافاً.

 فيما يلي بعض الأمثلة المحددة لفوائد تدريس الأخلاق:

  • يمكن أن يساعد الطلاب على اتخاذ قرارات أخلاقية حكيمة في حياتهم الشخصية والمهنية. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على اتخاذ قرارات بشأن الصدق أو النزاهة أو الأخلاق في مكان العمل.
  • يمكن أن يساعد الطلاب على فهم القضايا الأخلاقية المعقدة في العالم. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على فهم القضايا المتعلقة بالحروب والعدالة الاجتماعية والبيئة.
  • يمكن أن يساعد الطلاب على أن يصبحوا مواطنين أكثر فعالية: يمكن أن يساعد تدريس الأخلاقيات الطلاب على فهم حقوقهم ومسؤولياتهم كمواطنين، مما يمكنهم من المشاركة بفعالية في المجتمع.

 تحديات تدريس الأخلاق

ومع ذلك، فإن أخلاقيات التدريس تفرض أيضا بعض التحديات والصعوبات على المعلمين والمدرسين. ويتمثل أحد التحديات في كيفية الموازنة بين تنوع وتعقيد وجهات النظر والمواقف الأخلاقية والحاجة إلى الوضوح والاتساق في التفكير الأخلاقي والأحكام. يحتاج المعلمون إلى احترام تنوع خلفيات الطلاب وثقافاتهم وآرائهم، مع مساعدتهم أيضا على تطوير إطار أخلاقي مشترك ولغة مشتركة. يمكن للمعلمين تفسير أهمية الأخلاق في مجتمع متنوع حيث يمكنهم التركيز على أهمية احترام وقبول الاختلافات بين الناس. التحدي الآخر هو كيفية تحفيز وإلهام الطلاب للاهتمام بالأخلاق وتطبيقها في حياتهم. يحتاج المعلمون إلى جعل الأخلاق ذات صلة وذات معنى للطلاب، من خلال ربطها باهتماماتهم وخبراتهم وأهدافهم. يؤكد د عبد اللطيف خليفة على حاجة المعلمون إلى إيجاد طرق لجعل الأخلاق مثيرة للاهتمام وذات صلة للطلاب. فعندما يرى الطلاب كيف يمكن للأخلاق أن تؤثر على حياتهم اليومية، فمن المرجح أن يكونوا أكثر اهتماما بها (من كتاب اخلاقيات التعليم).  التحدي الثالث هو كيفية تقييم الأداء التعليمي والأخلاقي للطلاب. يحتاج المعلمون والمدرسون إلى استخدام الأساليب والمعايير المناسبة لقياس المعرفة والمهارات والمواقف والسلوكيات الأخلاقية للطلاب، مع توفير التوجيه البناء.

 طرق تدريس الأخلاق

يمكن للمعلمين والمدرسين استخدام مجموعة متنوعة من الأساليب لمساعدة الطلاب على تطوير أخلاق قوية. وتشمل هذه الأساليب:

  • تزويد الطلاب بنموذج لاتخاذ القرار الأخلاقي: يمكن للمعلمين توفير إطار عمل أو نموذج للطلاب لمساعدتهم على تحديد وتحليل وحل المواقف التي تنطوي على صراعات أخلاقية. يمكن أن يرتكز هذا النموذج على مبادئ أخلاقية محددة، أو يمكن أن يكون أكثر عمومية. وكمثال يمكن تزويد الطلاب بنموذج لاتخاذ القرار الأخلاقي وذلك من خلال توفير إطار عمل أو نموذج للطلاب لمساعدتهم على تحديد وتحليل وحل المواقف التي تنطوي على صراعات أخلاقية. يمكن أن يرتكز هذا النموذج على مبادئ أخلاقية محددة، أو يمكن أن يكون أكثر عمومية.
  • استخدام دراسات الحالة والأنشطة التفاعلية: يمكن أن تساعد دراسات الحالة والألعاب والمناقشات الطلاب على التفكير في القضايا الأخلاقية من منظور مختلف. ويمكن أن تساعد الطلاب على تطوير فهم أعمق للأخلاقيات وكيفية تطبيقها في العالم الحقيقي. على سبيل المثال، يمكن للمعلمين إنشاء لعبة أو محاكاة تتطلب من الطلاب اتخاذ قرارات أخلاقية. يمكن أن يساعد هذا الطلاب على ممارسة مهاراتهم في اتخاذ القرار الأخلاقي في بيئة آمنة
  • دمج الأخلاق في جميع المواد الدراسية: يستطيع المعلمون دمج الأخلاق في جميع المواد الدراسية، بحيث يصبح الطلاب على وعي بالأخلاقيات كجزء من كل جانب من جوانب الحياة. وهذا يمكن أن يساعد الطلاب على فهم أهمية الأخلاق في جميع جوانب المجتمع.
  • خلق بيئة تعليمية تشجع على الحوار والتساؤل: من المهم أن تكون البيئة التعليمية داعمة ومشجعة للحوار الأخلاقي. عندما يشعر الطلاب بالارتياح في التعبير عن آرائهم وأسئلتهم، فمن المرجح أن يتعلموا المهارات والمواقف اللازمة لاتخاذ قرارات أخلاقية. يشير د. محمد فتحي عبد الرحمن في مقالته: "أثر البيئة التعليمية على تنمية الأخلاق لدى الطلاب" الى الأبحاث التي تؤكد أن الطلاب الذين يتعلمون في بيئات تعليمية داعمة ومشجعة للحوار الأخلاقي هم أكثر عرضة لاتخاذ قرارات أخلاقية في حياتهم اليومية. على سبيل المثال، يمكن للمعلمين تكليف الطلاب بكتابة مقال عن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي أو إنشاء حملة لزيادة الوعي بالقضايا الأخلاقية في المجتمع. يمكن أن يساعد هذا الطلاب على فهم أهمية الأخلاق في العالم الحقيقي.

 بعض القيم الأخلاقية المشتركة التي تواجه معلمي المدارس واساتذة الجامعة:

  • الصدق: يجب أن يكون الاساتذة صادقين في عملهم الأكاديمي، مثل إجراء البحوث، ونشر الأوراق، وتدريس المواد، وتقييم الطلاب. ويجب عليهم تجنب أي شكل من أشكال الاحتيال أو التلاعب بالبيانات أو المصادر. ويجب عليهم أيضا أن يعترفوا ويستشهدوا بالآخرين الذين ساهموا في عملهم.
  • النزاهة: يجب على المعلمين أن يكونوا صادقين في سلوكهم المهني، مثل احترام المعايير الأخلاقية والقوانين الخاصة بتخصصهم، وحماية حقوق الملكية الفكرية للآخرين، وتجنب أي تضارب في المصالح أو الالتزامات. ويجب عليهم أيضا الحفاظ على كفاءتهم والعمل في مجال خبرتهم.
  • الاحترام: يجب على المعلمين احترام كرامة وحقوق وتنوع طلابهم وزملائهم. ويجب أن يعاملوهم بلطف وعدالة وحساسية. ويجب عليهم أيضا احترام حرية التعبير لأنفسهم وللآخرين.
  • الواجب: يقع على عاتق المعلمين واجب تحمل المسؤولية عن أفعالهم وعواقبها على أنفسهم وعلى الآخرين. يجب أن يحافظوا على مستوى عالٍ من الجودة والاحترام في عملهم وفي تمثيل مدرستهم او جامعتهم ومجالهم. ويجب عليهم الالتزام بالواجبات والقواعد التي تحكم علاقتهم مع طلابهم وزملائهم والمجتمع. ويجب عليهم مساعدة طلابهم على تنمية قدراتهم الأخلاقية ورعاية اهتماماتهم.
  • القدوة: من المتوقع أن يكون المعلمون قدوة جيدة في مجالهم وفي مجتمعهم. ويجب عليهم تشجيع وتحفيز ودعم طلابهم وزملائهم، والمساهمة في تقدم المعرفة والمصلحة العامة، والتصرف بشكل أخلاقي في كل ما يقولونه ويفعلونه.

  وأخيرا، تعتبر أخلاقيات التدريس مهمة هامة وجذابة يستفيد منها الطلاب والمعلمون بشكل متبادل. ومن خلال تدريس الأخلاقيات، يستطيع المعلمون تزويد الطلاب بالمعرفة والمهارات اللازمة ليكونوا مواطنين فاعلين وصالحين، وأشخاصا قادرين على اتخاذ خيارات أخلاقية والتعامل بشكل أخلاقي مع المواقف المتنوعة (عبد اللطيف خليفة، محمد خليفة). ولكن يتعين على المعلمين والمدرسين أيضا التغلب على بعض التحديات والصعوبات التي تتطلب البحث والإعداد المستمر. ومن خلال اتباع الأساليب والاستراتيجيات الفعالة، يستطيع المعلمون تحقيق أغراض تدريس الأخلاقيات.

 مصادر المقالة:

- عبد اللطيف خليفة. أخلاقيات التعليم. الرياض: دار المسيرة، 2023

- محمد جمعة. أهمية تدريس الأخلاقيات في المدارس. مجلة التربية، 2022

- محمد خليفة وعبد اللطيف خليفة. ظاهرة السرقة العلمية مفهومها، أسبابها وطرق معالجتها. مجلة أفاق للعلوم، 2023

- عبد اللطيف خليفة: أخلاقيات التدريس: تحديات وإستراتيجيات. مجلة جامعة الزيتونة للبحوث والدراسات، 2023

 مقالات للكاتب ذات علاقة بالموضوع

http://al-nnas.com/ARTICLE/MAlRubey/12k.htm

http://al-nnas.com/ARTICLE/MAlRubey/7k.htm

http://al-nnas.com/ARTICLE/MAlRubey/12k.htm

http://al-nnas.com/ARTICLE/MAlRubey/31k.htm

عرض مقالات: