ـ 1 ـ

 14 تموز

 في تلك الفترة ارسلت الخالة وجيهة الشاعرة حفيدها محمود الذي قُتلت والدته قبل سنوات انتقاماً من ابيه المناضل مزهر المحكوم مؤبد في نقرة السلمان، ارسلته الى عائلتنا حفاظاً عليه من نزاعات و انتقامات عشائرية اقطاعية اندلعت في مناطق الفرات، و صار واحداً من العائلة. و كان محمود يكبرني بسنتين و تسجّل في مدرستي الإبتدائية و صرنا صديقين حميمَيْن قلّما افترقنا . .       

كنا نقضيّ العطلة الصيفية المدرسية . . و كنت اخرج منذ الفجر والأهل والجيران نائمين على السطوح في شهر تموز اللاهب 1958، حيث كانت الشوارع خالية، كان محمود احياناً معي . . و كنت التقي مع عدد من ابناء الجيران لنجمع علب السيكاير الفارغة من انواع سيكاير : التركي، لوكس، غازي العراقية، اضافة الى انواع العلب الأجنبية التي كان عدد من رواّد مقهى " محمد راغب " الأغنياء يرمون بها بعد تدخين محتوياتها، من انواع سيكاير : كات (ابو البزون)، البحّار، بلاك اند وايت ذات العلبة المعدنية . 

 كنّا تلاميذ محلة الشيوخ في الأعظمية نتنافس مع صبيان محلتي الدهدوينة وشارع عشرين . . نتسابق كي نحصل على اجمل العلب الفارغة لنصنع منها لُعباً كبيوت كرتونية صغيرة نلعب ونلهو بها ونريها للآخرين الذين ان اعجبوا بها، كنّا نبيعها لهم لتحسين خرجيتنا من اليوميّة الشحيحة بسبب فصل الوالد من وظيفته كمعلم بعد ان أُطلق سراحه اثر اشتراكه بالمظاهرات الصاخبة التي اجتاحت بغداد وعموم العراق تنديداً بالعدوان الثلاثي على مصر وعلى احتلال ميناء بورسعيد . . وفي مناسبات ذكرى وثبة كانون . . 

. . . . .

. . . . .

  في فجر الرابع عشر من تموز ذلك العام، وفيما كان ضوء الفجر يبدأ بالظهور، حين كنا نبحث بين تخوت مقهى محمد راغب الشهير بـ " محمد الكاولي " ، عن العلب الفارغة في الساحة الخارجية للمقهى الكبير. . جاءت مجموعة ملثمة بكفيّة الرأس من ثلاثة شباب ولصقت صوراً لم تكن واضحة كثيراً لضابط كبير كما ظهر من نجماته الظاهرة في الصور حاسر الرأس، كما شاهدناها بعيوننا ونحن كامنين تحت التخوت . . لننط من مكاننا بعد ان اكملوا وشوشاتهم مع " محمد راغب " الذي كان يراقب لهم الفرع الرئيسي المؤدي الى بداية الجسر الجديد آنذاك " جسر الأئمة " . . ثم ذهبوا بخفة وبكل هدوء مع علبة اللاصق التي حملوها.

 اقتربنا من الصور لنرى لمن تعود، واستطعنا بمساعدة ضوء مصابيح الشارع التي كانت لاتزال مضيئة ان نراها ونقرأ ما كان مطبوعاً تحتها . . فقرأنا تحت الصورة " الزعيم الركن عبد الكريم قاسم القائد العام للقوات المسلحة في الجمهورية العراقية " . . . بينما صاح محمد الكاولي بصوت هامس يشبه الفحيح العالي النبرة بين صوت الراديو الذي كان يبث آيات من القرآن بصوت عبد الباسط عبد الصمد  :

ـ يا ولد صارت ثورة !! . . خبّروا اهلكم !! .  .  عدت بسرعة لأخبّر والدي الذي ولمفاجئتي التقيته وهو يخرج طائراً من الفرح من البيت وكان يصيح :

ـ " انتصرت الثورة . . انتصرت !! " ابني خبّر والدتك ان استيقظت ان لاتقلق قد لا اعود اليوم مساءً . . ابني خليّها هسّه نائمة لاتصحيّها " !

.  .  .  .

.  .  .  .

ومع اكتمال ضوء الصباح خرجت مع محمود وصبيان المحلة الآخرين، في وقت بدأت فيه اذاعة بغداد تبث نشيد " الله اكبر فوق كيد المعتدي " و مارشات عسكرية وبيانات تعلن عن قيام الجمهورية وانتهاء الملكية وتطلب من الناس الخروج الى الشوارع لدعم الثورة !! فيما صارت اصوات المدفعية والقذائف تُسمع بوضوح اكبر، بعد ان سمعناها آتية من بعيد و لم نكن نعرف ماهيتها ولم نعرف تفسيراً لها منذ ان بدأت بالدوي، لأننا لم نسمع مثلها قبلاً !

وعلى منطقنا الصبياني كنا نتساءل ونحلل " ايها افضل . . ملكية لو جمهورية ؟ ايها احسن واقوى ؟  وكنا نجيب الجمهورية احسن ! الجمهورية اكبر ! لأن روسيا وفرنسا والصين جمهورية بينما بريطانيا مملكة . . شوفوا مصر صارت جمهورية ! "

وصلنا الى مدخل سوق الشيوخ المسقّف القديم من جهة الجسر، لنطل على " شارع الأمام الأعظم " الرئيسي وحيث يبدأ جسر الأئمة (رأس الجسر) شاهدنا ولأول مرة في حياتنا " دبابة " . .  وكانت في الحقيقة سيارة مدرعة محملة بالسعف والورود وبالناس الفرحين الهازجين المليئين بالفرح و الهاتفين " يسقط الأستعمار والرجعية "،" عاشت الجمهورية "،" الموت لنوري السعيد، الموت للوصي عبد الإله " !!

ثم اخذنا نسمع الهوسات الحماسية لآلاف مؤلفة من البشر قادمة على الجسر من الكاظمية وهي تهتف " جيش وشعب وايّاك يا قائد الثورة " ، " سنة وشيعة ايد بايد من اجل الشعب السعيد " ، " كلنا جنودك يازعيم " . . لتمر المسيرة الهائلة امامنا التي كانت تدعو الى السير نحو باب المعظم، بعد ان التحم بها قسم من جموعنا .

شاهدنا ناس متجمهرين على واجهة محل لتصليح الراديوات والتلفزيونات وكانوا يسبّون ويشتمون حيث كانوا يشاهدون صوراً فوتوغرافية بلقطات مختلفة عُرضت على واجهة المحل الزجاجية، كانت تعرض لقطات متنوعة لنساء ورجال انكليز يتضاحكون مع عدد من رجال الحكم الملكي في حدائق وفي بلكونات لأبنية اوربية الطراز، كانت بينهم صورة لشخص ضاحك (موشي دايان) الذي كان وجهه يحمل غطاءاً اسوداً على احدى عينيه، صورة كانت تثير الحشد المتنوع المتجمهرالذي طغى عليه متسوّقون و متسكّعون ونساء بعصباتهن وفوطهن السوداء، وكانوا يصيحون :

ـ شوفوا اليهود الكفّار اللي كانوا يحكمونا !!

ـ شوف هذا اليهودي اعمى العين اكبرقاتل بحق امّة محمد !!

ـ اللهم صليّ على محمد وعلى آل محمد !

فيما صاح صوت : اخوان اليهود ليسوا اعدائنا ... اعدائنا الصهاينة .

ـ شنو صياهنة ؟؟ كل اليهود اعداء الأسلام

ـ ويلك يمكن هذا يهودي بينّا . .

واستمر الهرج والصياح والشتائم، فيما كان صاحب المحل يصيح :

ـ الخاطر الله . . . ديروا بالكم لاتتدافعوا على الصور والاّ حطّمتم الواجهة الزجاجية !!

 سارت جموعنا بمحاذاة " جامع الأمام الأعظم " على طريق " الحمّام القديم " لينثر اصحاب المحلات ما لديهم من حلوى و حامض حلو علينا . . و من مأكولات ملفوفة بورق ومكسّرات، و على الجميع مجانا، والبعض نثر حتى مسكوكات نقودهم علينا . . لتنهال علينا انواع اغلى من الحلوى والشكولا من محلات لطوّفي كاكا والنقود والصمون الحار ولنستلم انواع البقلاوات والزلابيا والسندويج الغالي الثمن مجاناً . . وسط اهازيج واغاني ودعوات وتكبير " اكلوا يرحمكم الله . . فدوه (فداء)  للشهداء فدوه للسجناء " !

 كانت الجموع تتزايد بالتحاق جدد بها من محلات الحمّام والحارة . . . ثم من رأس الجسر القديم و محلة السفينة وازقتها ومقاهيها الى حدائق المقبرة الملكية حين صعد " عوسي الأعظمي " يحيي الجماهير بآلته الموسيقية ذات وقع الطبلة من على اعلى عمود كهرباء مشبّك مطل على ساحة الشباب . . ووصلت الجموع مقابل المقبرة الملكية ووقفت مجموعة من المتظاهرين تريد تحطيم ابوابها فاوقفهم عدد من النواطير من اهل المنطقة اضافة الى عدد من رجال الدين الذين هرعوا لحماية " قدسية المقابر و الأموات " و محذّرين من " انتقال آثامهم اليكم " . .

ثم حيّا الركب المستمر باهازيجه وبابيات من شعر الجواهري الكبير المُذكّرة بالشهداء :

يومَ الشهيد : تحيةٌ و سلامُ . . .  بك و النضالُ تؤرخ الأعوامُ

يومَ الشهيد طريقُ كل مناضلٍ . . وعرٌ، و لانُصُبٌ ولا اعلام

في كل مُنعَطَفٍ تلــــوحُ بلية . . . و بكــلّ مفترقٍ يدِبُّ حِمامُ

و اهازيجه المشيدة بالشعب والوطن . . حيّا الطلبة المتواجدين في ذلك الصيف في الأقسام الداخلية العائدة لـ " كلية الملك فيصل" التي صارت لاحقاً " دار المعلمين الأبتدائية " ، الكلية التي قاد طلبتها العديد من المظاهرات و النضالات والأضرابات مشتبكين مع رجال الشرطة، من اجل الشعب و حقّه بالحياة  . . و التي قدّمت العديد من الشهداء وسجناء الرأي وخرّجت عديد من الوجوه والشخصيات السياسية لكل القوى الوطنية العراقية بكل اطيافها . . . 

وطافت المسيرة بشارع الشباب . . شارع تتويج الملك فيصل الثاني و زيارته مع خطيبته للمقبرة الملكية حين حمل اختي سوسن ذات الثلاث ربيعاً من يدي، شارع المظاهرات والأشتباكات والأضرابات العصية على الشرطة . . وفيما كنت مع المتظاهرين تذكّرت حدثين وقعا لي ولاانساهما في ذلك الشارع . . الأول احداث انتفاضة  1956 في الأعظمية و رمي المتظاهرين بالرصاص و الهجوم بالسكاكين على طلبة كلية الملك فيصل، و هوسة :

الله واكبر ياعرب                القاهرة حرقــــوها

وارتجّت اركان السما           وبور سعيد نهبوها

و الثاني : القنابل المسيلة للدموع، و قنابل الغاز التي افقدتني الوعي، وسط اضراب كلية الملك فيصل و اعدادية الأعظمية للبنين، ثم ثانوية الأعظمية للبنات . . في الذكرى الأولى للعدوان الثلاثي . .

و لتستمر المسيرة و تلتقي في ضحى ذلك اليوم الجميل في رأس الحواش بجموع هائلة اكبر قادمة من جهة الكاظمية ايضاً ولتتوحد بها، ليبدأ القرّاء بقراءة البيان الأول للثورة بالترديد المرتفع الصوت لأذاعة البيان الأول من الأذاعة العراقية . وبدأت الناس ترفع صوراً لضباط جدد معروفين لها ومن ابنائها في الأعظمية و غيرهم . . فارتفعت صور العقيد رفعت الحاج سري وصور المقدم وصفي طاهر اضافة الى العقداء عبد السلام عارف والمهداوي . . اضافة الى عقداء المربع الذهبي الشهداء صلاح الدين الصباغ و كامل شبيب ورفاقهما الذين اعدموا مطلع الأربعينات . وكانت الناس تتساءل وتجيب عن هويات الضباط الجدد و من هم ، و زاد فرحها بعد ان عرفت انهم من اوساطها الكادحة والفقيرة والمتوسطة . .

  لقد انتصرت الثورة وانطلقت الجماهير العراقية بعربها وكردها وكل قوميّاتها، باسلامها ومسيحييها واديانها، وبكل طوائفها وكل قواها السياسية رجالاً و نساءً، انطلقت بفرحها واعراسها، فرحها بما سيحمله الغد بلقاء الأحبة من سجناء العمر،الذين شابَ اكثرهم خلف القضبان، فرحها بعودة المنفيين والمهاجرين، وبفجر جديد يطلّ بعد طول نضال وتضحيات جسيمة، وبنهاية الطغاة الذين حوّلواَ ضياء العراق  الى ظلام وجهالة وفقر.

 كانت الناس تردد، لقد انتهى الحكم الملكي وقضي على فكرة (الحكم حق مقدّس) مقصورعلى النخبة المصطفاة، الفكرة الأساسية في انظمة الحكم الأقطاعية الدينية، التي استغلّها العثمانيون اسوأ استغلال في تثبيت حكمهم واخضاع الشعوب، وكرّسها البريطانيون بعد انتصارهم في الحرب العالمية الأولى، بتصعيدهم و تقريبهم لعدد من العوائل ذات النسب الديني، و ما اعيد صياغة قسم منه، او رُسمت صور جديدة لأنساب بعضها الآخر، بعد ان تجاوزها الشعب  .  .

 لتلتقي الأمواج المتلاطمة بعد الظهر في الباب الشرقي، مع الأمواج والحشود البشرية القادمة من الكرخ والصالحية عبر جسر الملكة عالية (جسر الجمهورية لاحقاً) والحشود الأخرى القادمة من جهة المحلات المحيطة بساحة السباع و شارع غازي (الكفاح لاحقاً) . . ليتوالى الخطباء محرضين و داعين الشعب الى الإلتفاف حول ثورة الجيش والشعب وعلى اليقضة والحذر من مؤامرات الأستعمار واذنابه، وعلى طاعة السلطة الوطنية سلطة الجيش والشعب، سلطة العرب والكورد و الاقليات، ابتداءً من تنفيذ اوامر منع التجول، التي تمّ اعلانها.

 لقد صعّدت ثورة 14 تموز المزاج الشعبي الى اقصاه، بعد ان فجرّت الطاقات الشعبية، وفتحت صفحات جديدة في حياة البلاد وخاصة في حياة اوسع الفئات الفقيرة والكادحة، وفي حياة القوميات غير العربية والأقليات والتكوينات القومية والدينية . . هكذا كانت مشاعرها  و آمالها . .

 وسط تحذيرات المجربين من نشاطات الأحتكارات النفطية التي لن تسكت و ستواصل بلا كلل نشاطاتها المتنوعة لإيقاف مدّ الثورة، لاعبة على اوتار التذمر و الحساسيات والتنوع العراقي القومي والديني والطائفي، داعمة كلّ من تضرر و سيتضرر من اجراءات السلطة الجمهورية الجديدة التي اعلنتها في بيانها الأول، وخاصة كبار رجال الأقطاع والأداريين وكبار الضباط السابقين و الوزراء و النواب وعدد من كبار اغنياء المدن، اضافة لعدد من كبار الضباط الذين بقوا في مراكزهم، و رجال الاجهزة الخاصة السعيدية . . و ابناء عشائرهم و اقاربهم . . 

 وسط انباء انتشرت بين المتظاهرين عن انزال الاسطول السادس الاميركي في لبنان، و وضع قواته على اهبة الاستعداد في الاردن للتدخل في العراق، و انباء عاجلة بثّها الترانزستر الذي كان يحمله عدد من المتظاهرين، عن الحشود العسكرية السوفيتية في القفقاس التي هددت بالتدخل و كسر اي تدخّل اميركي في العراق . .

لقد امتلأت الساحات وشوارع العاصمة بالجماهير رجالاً و نساءً . . وبقينا نطوف ونطوف مع الجموع منذ فجر صباح ذلك اليوم الصيفي والى ليله، حيث فتحت ابواب البيوت و المطاعم والمصالح ابوابها لإطعام المحتفلين والمتظاهرين مجانا . . بعد ان امطرونا مرّات و مرّات بالملبّس والحلويات بل وبالنقود، و نحن نطالب باطلاق سراح السجناء السياسيين . . و عدنا انا و محمود بباصات المصلحة التي بقيت في واجباتها الى ساعة متأخرة من الليل، مجاناً . .

. . . . .

. . . . .

و بعد مطالبات و عرائض عاجلة، صدرت اوامر بإطلاق سراح السجناء السياسيين وفق قوائم كانت تُعلن في الصحف اليومية . . لتستمر الفرحة ونسافر الى سجن بعقوبة لإستقبال ابن عمي عدنان، بعد ان سافر محمود الى الحلة لإستقبال والده مزهر الذي أُطلق سراحه من نقرة السلمان . .

انتظرنا وانتظرنا وسط حشود عوائل السجناء السياسيين متذكّرين انتظارنا في مواعيد الزيارات السابقة وقال الحرس بأدب هذه المرّة  . . " رجاءً انتظروا . . انهم يكسّرون حديدهم !!  و قد لايستطيعون المشي بسهولة بعد تكسير الحديد !! " . . وتذكّرنا انّنا سألنا السجناء الشيوعيين عند مواعيد المقابلات السابقة تلك عن سلاسل الحديد الرابطة بين حديد اليدين وحديد القدمين، واجابونا بلطفهم و بضحكاتهم الرنانة " انهم يشدوّنه علينا عند المقابلة فقط . . لأنهم يخافون !! "

حين قالت جدّة احد السجناء في ذلك الحين  : وِلْدي يخافون من مَنْ ؟

ـ مننا ومنّكم !!

ـ ولكنكم في السجن ! ونحن مطوقون بالحرس . .  !

وقال صوت جاد متألم وبخفوت :

ـ انهم مقيّدون طوال الوقت، حسب نوع العقوبة !  

فجأة سمعنا صوتا كالرعد يهتف بحياة ثورة الشعب ! " عاشت ثورة الشعب " !

و سرت اصوات عالية قائلة : كسروا حديده ! انه يخرج الآن . . انه المناضل زكي خيري !! 

لم نستطع ان نراه حين التفت الجموع حوله وتصاعدت الأكف بالتصفيق والحناجر بالهتاف بحياة الحزب ومناضليه . . 

كنا ننتظر خروج ابن عميّ عدنان البراك !! الذي رأيناه لأول مرة عند موعد المقابلة السابقة في سجن بعقوبة . . حين كانت صورته مؤطرة باطار ثمين ومعلقة على سجادة حائطية صغيرة نظيفة على الدوام ، كانت تثير فينا مشاعر الحنين وكأننا نقف امام احد كبار الأتقياء الورعين . . حين كانت تنساب الدموع من عيني امي عندما تلحظها ونحن جنبها .  .

خرج عدنان بهدوئه و كبريائه و الهزال و الشحوب باديان عليه و على رفيقيه عبد الرحيم شريف الذي انتظرته خطيبته المربية منيرة عبد الرزاق و عائلتيهما، و عزيز محمد الذي لم تأتِ والدته بعد، وسط التصفيق و انواع الإشادات بمواقفهم . . و وسط ابتساماتهم المشرقة و انواع الدعوات لعزيز محمد لإستقباله في بيوت العوائل البغدادية، شاكراً ايّاهم و مفضلاً انتظار والدته التزاماً بموعدهما الذي حددته ببرقية ارسلتها من اربيل الى سجن بعقوبة . .

 بعد اسابيع عادت د. نزيهة الدليمي من ابعادها للنجف الى بغداد، د. عبد الصمد نعمان من ابعاده الى حلبجة و اعاد فتح عيادته المعروفة لأهالي الأعظمية، و عاد د. عبد الأمير السكافي من ابعاده للرمادي الى اهله في النجف و بدأ بزيارتنا و استأجر مشتملاً في الاعظمية. . من جهة اخرى عاد الوالد الى وظيفته في التعليم و اعيد اعتباره و صرفت له رواتب الفصل السياسي، التي ساعدتنا على شراء تلفزيون بالتقسيط . .

  و فيما انطلق الشعب العراقي بكل مكوناته الى فضاء رحب مبشّر بمستقبل افضل، و كأنه هو المقصود في الكتاب المنتشر آنذاك للكاتب اللبناني اليساري المعروف " رئيف خوري " المعنون بـ " شعب عظيم يخرج من قفص " واصفاً فيه انطلاقة الشعوب الإيرانية اثر انقلاب مصدق في ايران و كيف تعاون الشاه و الدوائر النفطية الغربية و الاستعمارية و جنرالات الشاه و قوى الاقطاع و كل القوى و الاحزاب اليمينية و الرجعية في القضاء على ثورته القاضية بتأميم النفط الإيراني . . و تأمين الخبز و الحرية و العدالة الإجتماعية.

 تشكّلت " محكمة الشعب " كمحكمة عسكرية عليا خاصة علنية برئاسة العقيد فاضل عباس المهداوي . . التي اطلعت الشعب و كشفت له و اعانته على معرفة الاحداث الحقيقية و انواع الاتفاقيات الغربية لإستغلال البلاد و خطط كسر اية معارضة او اي صوت عارضها، بعد ان عاش الشعب و الشباب انواع المجالس العرفية العسكرية السريّة التي حكمت شباب البلاد بأحكام قاسية حطّمت حياتهم و تسببت بالعديد من الشهداء، منها محكمة النعساني السريّة سيئة الصيت . . محكمة الشعب التي رغم نواقصها و اخطائها، الاّ انها شكّلت اول تجربة علنية لمحاكمة اعداء الشعب و فاسديه من انواع مليونيرية ذلك الزمن . .

 كانت مقاهي الأعظمية تكتظ بروادها لمشاهدة تلك المحاكمات العلنية الجريئة التي كانت تبدأ بحدود الساعة السادسة مساءً في كل يوم من تلك الأيام . . و كانت تلاقي الترحيب و التصفيق و انواع النقاشات و من مختلف الإتجاهات لتأييد ما دار فيها، وسط سكوت البعض و هم يشاهدون الشعبية الهائلة للشيوعيين ورثة النضال العنيد ضد الرجعية و الإستعمار . .

 الشعبية التي لم تأتِ بقرار او بأمر خارجي، و انما بأعمال و تضحيات جسيمة و ايمان اثبت صحته بدور الشعب و اهمية تنظيمه في نقابات و جمعيات و اتحادات . . فتشكّلت و انطلقت انواع المنظمات المهنية بمبادرتهم و تشكّلت لها قيادات انتُخبَت و ضمّت كل القوى اليسارية و القومية و الوطنية و من كل المكوّنات القومية و الدينية و المذهبية و الفكرية، نساءً و رجالاً . . وفق برامج دعت الى تقدّم و خير البلاد و الشعب و شبابه.

 منها ما كان يدور في مقهى محمد غائب في الأعظمية مقابل بيتنا، لرؤية جلسات المحكمة العلنية و اخرى لمناقشة ما كان يدور في البلاد في ايام الخميس والجمعة . . حتى صار شبه مجلس دوري للمناقشات السياسية، ضمّ : والدي، الوجه الديمقراطي عبد الفتاح ابراهيم، الضابط مكي الدباغ، القيادي البعثي عبد الرحمن الضامن، المحامي القومي عبد الوهاب الضامن، الوجه النقابي المعلم عبد الحميد الهيتي، الاستاذ الجامعي عبد الفتاح الملاّح، عبد الحكيم نعمان الأعظمي، الاستاذ جاسم الرجب اخو صاحب مكتبة المثنى، الصحفي الرياضي برهوم، القومي الديمقراطي كرامة  الريّس . .

و بمشاركة من حين لآخر حسب مشاغلهم للقياديين الشيوعيين عدنان البراك و عامر عبد الله، المحامي كامل قزانجي الوجه الديمقراطي المعروف الذي اشتهر بمواقفه في محكمة الشعب و تطوّعه في الدفاع عن الشعب الإسباني و جمهوريته ضد الدكتاتور فرانكو و عصابات الفالانج في الأربعينات . . و كان يلتف حولهم عدد كبير من رواد المقهى و يشاركون في النقاشات متفقين او مختلفين في اجواء حوارات كانت تحترم الآراء آنذاك . . (يتبع)

    ـ 2 ـ

   الخال مزهر

 

وفيما كان يتوالى اقرار قوانين متعددة لصالح الشعب و من اجل عيشه عيشاً كريماً افضل . . كخروج العراق من حلف بغداد و من الاسترليني، و صدور قانون الإصلاح الزراعي و قانون تشكيل المقاومة الشعبية للدفاع عن الجمهورية و عن الشعب، بعد ظهور و بروز اعمال التخريب و ارهاب الناس . . حيث بدأت تظهر احداث مخيفة غريبة . .

فقد اعلن عن اكتشاف عبوة ناسفة كبيرة تحت جسر الأئمة، اخافت الناس و اخذت تحذر من عبور الجسر و السير و التمشيّ عليه و هربت ام مصطفى من مكانها عند حائط درج الجسر، حيث كانت تحضّر و تبيع تشريب الباقلاء الذي كانت تعتاش عليه كثير من العوائل الفقيرة عند شريعة البلاّمة . . و أكتُشفت اخرى و اخرى في ايام تالية . .

و حدث حريق كبير عند تانكي ماء الباب الشرقي، الذي ارعب الناس و تبيّن انه كان بفعل عبوة ناسفة حارقة و ضعت في بانزين خانة و في صهريج بنزين كبير كان يقع هناك . . حريق استمر لأسابيع و كان لهيبه و ادخنته تُرى بالعين المجردة من سطوح منازل الأعظمية . . اضافة الى انقطاع و ارتباك تجهيز الكهرباء و الماء في بغداد، و القي القبض على عدد من الفاعلين منهم و أُعلن عنهم بالإذاعة و التلفزيون الذي اظهر صورهم و اسمائهم .   

 في وقت تغيّرت فيه لهجة اذاعات القاهرة و صوت العرب . . من التحيات و الإشادة بثوار 14 تموز و تغيّرت اغاني ام كلثوم المشيدة بشعب و جيش العراق المهنئة بانتصاراته، من :

شعب العراق الحر ثار ، و جيشه حقق الانتصار

و . .  بغداد ياقلعة الإسود و منارة المجد التليد

الى :

راجعين بقوة السلاح . . جيش العروبة يابطل الله معك

مأساة فلسطين تدفعك نحو الحدود . .

حوّل لها الآلام بارود في مدفعك

 وسط اعلام يومي متفوّق من دولة الوحدة بين مصر و سوريا آنذاك، كان يدعو للوحدة العربية الفورية و (الوحدة العربية لأجل تحرير فلسطين) كطريق وحيد لتحقيق ذلك الهدف و انواع المارشات و الاناشيد الداعية لذلك، اضافة الى البرامج اليومية المتكررة الموجهة الى العراق، التي حملت الرسائل الصوتية للضائعين و المنقطعين الفلسطينيين عن اهاليهم في الدول العربية المحيطة بفلسطين من (انا فلان الفلاني سلامي الى اهلي . . نحن الان في دير البلح، اين انتم ؟؟)، على سبيل المثال و غيرها العديد من البرامج المهيّجة للعواطف البشرية لكسب ودّها و تأييدها و التحرّك الفوري من اجلها، في وقت لم تُثبّت فيه ثورة تموز نفسها بعد . .

و غيرها من برامج توجّه بصخب نحو اتجاه مغاير لأهداف الثورة، من اذاعات لها شعبيتها وسط الجماهير العراقية في سنوات النضال ضد الحكم السعيدي . . و كأنها تُحمّل العراقيين مسؤولية ايجاد حلول فورية للشعب الفلسطيني بمواجهة و اعلان الحرب الفورية على العدو (اليهودي) دون الانتباه الى ضرورة التعريف بالخطر الصهيوني العالمي، ماهيّته و حجمه و انواع ادواره و ليس اليهودية كدين . . طارحة بشكل مؤسف ما كان يجري و كأن ثورة 14 تموز قامت بها القاهرة من اجل تحرير فلسطين !! و ليس من اجل الخبز و الحرية و ضمان حياة انسانية افضل للعراقيين بكل مكوّناتهم القومية و الدينية و الثقافية . .

في زمن كانت فيه شعبية الرئيس المصري عبد الناصر تتزايد بين قوى التقدم و التحرر في العالم و حاز فعلاً على قلوب و عواطف الملايين العربية، لسياسته في مواجهة الاستعمار و تحقيق التأميم الاول في العالم العربي و هو تأميم قناة السويس، الذي فتح ابواب تأميم الشركات الغربية و خاصة شركات النفط على مصراعيه، رغم تسرّب اخبار عن قسوة دوائره بحق الآلاف من المعتقلين السياسيين المصريين المعارضين آنذاك . . و لكن كانت اسئلة تتصاعد و تتوسع، هل يريد عبد الناصر ضمّ العراق الى عرشه او هل يريد ان يكون هو زعيم العراق ؟؟ في زمان كانت فيه العواطف و التطرف و ليس العقول و العلوم هي التي تقرر، و تؤديّ الى اتجاه حركة الاطراف المتصارعة، و بالتالي تضاربها و تصارعها بينها . . الأمر الذي كانت تلعب عليه و تثيره بشتى الوسائل و بشكل شيطاني الاحتكارات النفطية و عموم الدوائر الغربية التي افلت العراق من سيطرتها . .

 وسط وفود متكررة من القاهرة و دمشق كانت تلتقي بنائب القائد العام للقوات المسلحة وزير الداخلية عبد السلام محمد عارف في بغداد، يؤكد فيها جميعهم على الإستعادة الفورية للحق السليب في فلسطين، القضية التي كانت ترى فيها الجماهير العراقية، ان الحكومات العربية كانت تتاجر بها، لضرب حركاتها و احزابها التحررية و انها كانت تسئ لقضية الشعب الفلسطيني المناضل بكل الطرق لإستعادة ارضه و هويته العربية و حقّه في الحياة . . و وسط خطابات و شعارات النائب عبد السلام عارف في الألوية التي زارها و لم يفهم منها الناس مايريد، من : طاسه ببطن طاسه و بالبحر غطّاسه ، الى . . دين و عروبة و اسلام يا زعيم للامام . . و ان الاكراد يعودون بالاصل الى جدّنا كُرد بن مرد بن عرب، و انهم عرب سكنوا الجبال و صاروا يتحدثون بالكردية . . ؟؟

 حتىّ صارت الأحزاب الوطنية و خاصة الحزب الشيوعي (الحزب الذي لم يُشرك في الحكومة رغم ادواره الاكثر فاعلية بين الجماهير و بين الاحزاب) و الحزب الوطني الديمقراطي، صارت تطلب من القوى و الاحزاب القومية ان تهتم فعلياً اكثر بأحوال العراقيين الخارجين للتوّ من الحكم الملكي و دستوره الذي طبّقته دوائره وفق مصالحها و مصالح اتباع و ذيول الحكم الأنانية في زمنه، و تثبيت الثورة و ايجاد الطرق الصحيحة لتحقيق اهدافها المعلنة، و الاهم هو العمل على كسب ثقة العراقيين بتحسين حياتهم و احقاق حقوقهم ليتمكنوا بالتالي من الإيفاء بواجباتهم القومية و مساعدة اللاجئين الفلسطينيين على العودة لديارهم، فالجرح الفلسطيني واضح و لايمكن حجبه بغربال، و السؤال يكمن في كيفية علاجه . .

  و صارت مجاميع تغزو ازقة و درابين الأعظمية و تكتب و ترسم بالألوان خارطة فلسطين السليبة و شعارات تحوّلت من (فلسطين عربية فلتسقط الصهيونية) الى (فلسطين عربية فلتسقط الشيوعية) كأنّ الشيوعيين هم الذين احتلوا فلسطين و شرّدوا شعبها و اهلها و استوطنوا ديارهم و ليس العصابات الصهيونية المدعومة و المجنّد لها من الغرب و من احتكاراته الصناعية و العسكرية لإقامة رأس رمح لها في الشرق الاوسط بأيّ ثمن . .

و تكوّنت مجاميع غريبة حاولت منع عبور اهل الكاظمية على الجسر و وصولهم الى الاعظمية و عموم بغداد، بدعوى انهم كفّار شيعة و كفّار شيوعيين . . و حدثت مشاجرات و صراعات بالأيدي لتحقيق ذلك، لولا تدخّل شباب من المقاومة الشعبية، و اقامتهم دعوى ضد هؤلاء، الاّ ان الدعوى أُهملت و سُجّلت ضد مجهول في محاولة اثارة الفتن، و تبيّن ان القائمين على تلك الإعتداءات كانوا على صلة وثيقة بمعاون شرطة الأعظمية آنذاك . .  

. . . . .

. . . . .

كان الوالد يحرص كلّما امكن في كل صيف حيث العطلة الرسمية للطلاب والمعلمات والمعلمين، على ان نسافر الى الحلة وفق الإمكانات المالية التي لم تكن جيدة . . للترفيه عن والدتي المعلمة التي كانت تعاني التعب و الإرهاق لكونها ام لأطفال و معلمة و زوجها مفصول و مُطارد و جرّاء كل اوضاع البلاد و مانتجت عنها . . من مطاردة الوالد الى مواقف عداء متنوع لعائلتنا الصغيرة من جيران متنفذين كانوا يستخدمون قرج المحلة ام سناء و بناتها لإثارة انواع المشاكل، الى مسؤولية الخوف على الأطفال الاربعة . . .

كان السفر يخفف عنها، حيث أهل واقرباء جدتي، الذين كانوا يعيشون و يسكنون هناك من اشقاء جدتي وشقيقاتها و ابنائهم و احفادهم، وكان ابن الشقيقة الكبرى المحامي فاضل قد ارتبط بصداقة قوية مع والدي الذي تربطه علاقات صداقية قوية مع عدد من وجوه و ابناء المدينة، ممن جمعهم النضال او الدراسة او نشاطات نقابة المعلمين . .

فكنّا في العادة نسكن كضيوف في الحلة، في محلة القاسم حيث ضريح الإمام القاسم، ببيت المحامي فاضل و زوجته الحنون ام عماد التي تزوجت دون موافقة اخيها الكبير القصاب الذي كان يريد تزويجها الى ابن زميل مهنته صديقه . . و فرض على الاب و الام و الاخوة مقاطعتها و تسبب لها ذلك بحزن سكنها و لم تتخلص منه رغم انها رزقت ببنين اصحاء و بزوج وفي، حزن كوّن منها امرأة قوية ان ابتعدت عن منابع الأحزان . . 

و تكوّنت لديّ ذكريات جميلة و فكاهية و اخرى لاتُنسى من الحلة و من اهاليها الطيبين . . ففي احدى تلك السفرات، ذهبنا في محرّم انا و محمود الى موكب عزاء في القاسم، شارك فيه عدد من شباب المحلة و المحلات المجاورة . . و بينما كان الشباب يلطمون على وقع الدفوف و ردّات ياحسين ياشهيد، كانت احدى الفتيات بملابسها السوداء و اعلى صدرها المفتوح و المحمّر من اللطم تضامناً مع اللطامة، بدا انها كانت معجبة باحد الشباب اللطامة، فسألته عندما مرّ امامها :

ـ عيني . . هذا عزاء من ؟؟

اجابها بجد و هو يلهث من تعب اللطم و المسير :

ـ عزا الحلّة ياعيني !! عزا الحلة ياعيني !!

و مرّ مرّة اخرى امامها و كررت السؤال عليه، و اجابها بنفس الجواب و بنظرة ثابتة على و جهها هذه المرّة، و كررت السؤال للمرة الثالثة و هو يمرّ، فاجابها بانفعال جاد و بعيون مبحلقة :

ـ عزا الحلة ياعيني !! عزا الحلّة يابربوك !! عزا الحلة يابربوك !!

فضحكت الفتيات المصاحبات و انسحبن بسرعة ، و ضحكنا و ضحكنا كثيراً و نحن مسرورين من جرأة تلك الفتاة و حسن تدبيرها هي و صاحباتها . . سررنا من تدبير الشباب للنكتة و الضحكة، مهما كانت الظروف و الاستحكامات المجتمعية . .

 و في احد الأيام في الحلة، دعتنا الجدّة غنية الى مولود على روح المتوفين الذي ستحييه مُلاّية دعوها بـ " الزار" لأنها تستطيع ان (تُبَكيّ الحجر)، فذهبت الوالدة و كنت انا و محمود معها، برفقة ام عماد التي اصرّت على الذهاب لأنها لم تبكِ كفاية في وفاة والدها كما قالت، بسبب منع اخيها لها بحضور الفاتحة كما مرّ، و رغم رجاء والدتي ايّاها بعدم الذهاب لأنها قد تؤذي نفسها، خاصة و انها اوضحت لها انها تذهب لتلبية دعوة الجدة غنية كالتزام و كأصول عائلية لا أكثر . .

دخلنا البيت ذي الطوابق الثلاثة من الزقاق الضيّق لمحلة القاسم، و قالت الوالدة لنا :

ـ ولدي انه مولود للنساء و انتما صبيّان، فاذهبا الى السطح و تستطيعان من هناك و بدون اية ضجة و بهدوء رؤية المولود، و كررت (بكل هدوء) . .

و فعلاً ذهبنا الى السطح العالي للطوابق الثلاثة، و كان هناك تنوّر و كميات من كَرَبْ النخيل لإشعال التنور (الكربة هي قاعدة السعفة) . . و اخذنا نتفرّج محمود و انا على ماتقوم به الزار التي كانت امرأة متوسطة العمر قوية العود اميل للرشاقة، و بدأت بالنواح و تعداد محاسن الموتى بالأسماء بدءاً بالحسين سيد الشهداء . . و هي تحنجل و تدور على الحاضرات بملابسهن السوداء و ترفع رأسها الى السماء بوجهها و عينيها السوداوين المخيفتين . .

حتى بدأ بكاء النسوة الذي اخذ يرتفع و يرتفع و الزار تدعوهن الى البكاء اعلى و اعلى . . حتى صار البكاء عويلاً و صراخاً و بدأ بعضهن باللطم و الحنجلة خلف الزار بصراخهن العالي و دعواتهن للاحبة بانواع التوسلات المؤثرة بالعودة بعد الغياب، و كفى غياب !!

 و فيما كنّا محمود و انا نراقب مايحصل باعصابنا المشدودة و قلقنا على اهلنا مما يمكن ان يحصل بعد فقدان كثيرات السيطرة على اعصابهن . . و بقينا نراقب الوالدة و ام عماد من خلال زحمة النساء اللاطمات الصارخات، و شاهدنا المسكينة ام عماد تنط واقفة و هي تلطم على روح والدها بصراخ طغى على صراخ الجمع، لتسقط فاقدة الوعي و تجمّع النساء حولها لمحاولة انعاشها بالوسائل البيتية المتوفرة لإيقاظها . .

و بقيت اتابع ماسيحصل لوالدتي من هذا المولود البشع، و خوفاً عليها وجدتني ارفع كربة و ارميها على الزار من ذلك العلو كي توقف الصراخ و العويل، خوفاً على اميّ . . و اصابت الكربة الزار على رأسها او جنبه و سقطت على الارض و هي تصيح بأعلى صوتها و تبحلق بعينيها المخيفتين عليّ و تقول :

ـ انت ابو القميص الماوي . . و الله لأسويك غراب !! و الله اسويّك غراب !!

توقف المولود و توقف العويل و هدأ البيت و ابتعدنا بسرعة عن محجّر السطح محمود و انا كي لا تشاهدنا، و نحن نسمع وقع خطىً كثيرة تصعد الدرج، قال محمود باعتباره ابن المحلة :

ـ لاتقلق كل كلام الزار خريط لا اكثر و سمعنا مثله مراراً و لم يحصل شئ، الصاعدين للسطح يريدون معاقبتنا بضربنا . . علينا الذهاب بسرعة الى سطح الجيران ثم سطح الجيران الآخرين و سيخفونا عندهم و يخبّرونا بما سيحصل، لأنهم من بيت  خالي . .        

. . . . .

. . . . .

كان سفرنا الى الحلة في هذا الصيف هو للسلام و لتحية المناضل مزهر ابن وجيهة بمناسبة اطلاق سراحه اثر الثورة، فسافرنا كالعادة الى الحلة الى بيت المحامي فاضل، و من هناك ذهبنا الى بيت الخالة المناضلة وجيهة للقيام بواجب تحيتها و السلام عليها و تهنئتها باطلاق سراح ابنها الجسور مزهر، حاملين لها الهدايا الاصولية و الحلوى . . و شاهدت الذئبين اللذين اصطادتهما الخالة وجيهة كما مرّ، محنّطَيْن و معلّقين على الحائط و فوقهما بندقية البرنو التي ورثتها الخالة من زوجها الضابط الذي قُتل في حرب البلقان ابّان الحرب العالمية الاولى . .

   فرحت الخالة وجيهة كثيراً بزيارتنا لها و دعتنا لرؤية بيتها المتواضع و غرفة مزهر النظيفة المليئة بالزهور البرية و بالبسط البدوية و هدايا ممن مرّ قبلنا لزيارته، و قالت :

ـ من يوم اطلاق سراحه و مزهر مشغول بانواع الضيوف الماريّن للسلام عليه، و وفود المهنئين له لإنتخابه رئيساً لجمعية فلاحية كبيرة في ريف الهندية، و اصحاب المشاكل الراجين منه المساعدة على حلّها . . و قد ذهب الى هناك . . الى بيت الشيخ دايخ المتعاطف مع الفلاحين الفقراء و احد اكبر المطالبين بحقوقهم كما تعرفون . .

  في فجر اليوم التالي ذهبنا بسيارة المحامي فاضل و اصرّت زوجته ام عماد ان لايذهب فاضل لوحده و ان تكون معنا، (لأنها لاتُؤَمّن ان يكون لوحده) ! و هكذا بدأنا سفرتنا بالعتمة و وصلنا الى قرية الشيخ دايخ مع الخطوط الاولى للفجر . . و كان في طرف القرية هناك، تلاًّ واسعاً ظهر في اعلاه سياج حجري طويل قالوا، هذا هو بيت الشيخ دايخ.

 وصلنا الى باب البيت التي كانت في الواقع بوابة كبيرة من خشب سميك و كان هناك ناطور مسلّح ببرنو، الذي اوقف السيارة و عرف المحامي فاضل و قال : تفضّلوا !! و فيما دخلت السيارة الى ساحة البيت الترابية الواسعة التي بُنيت حولها عدة غرف مشكّلة معاً كبناية خان تجاري باطراف اربعة  كأنها كانت ابراج مراقبة او حراسة، عرفت بعدها ان اولاد الشيخ و ابناء اخيه يعيش كلُّ مع عائلته في غرفة او اكثر من تلك الغرف، و وقفت السيارة في فضوة قرب المضيف و نزلنا بعد ان ذهب النساء الى مضيف او غرفة كبيرة مخصصة للنساء هناك، و ذهبنا الى مضيف الشيخ دايخ، و قدم الينا مسرعاً مزهر و سلّم على الجميع باحتضان كلّ منّا فيما تصاعدت كلمات : الف الحمد الله ع السلامة . . بسلامتكم و دوم عزّكم . .

  بعد دقائق جاء الشيخ دايخ جارّاً معه خروفاً كالتيس للذبح في استقبال الضيوف الاعزاء، و بعد كلمات التحايا و السلام و الجلوس على الافرشة و توزيع القهوة العربية من دلال كان قسماً منها مخمّراً على جمر منقل كبير . . انتبهت الى ان الراديو الكبير الموضوع هناك و المعلّم بثلاث قطع من القير تؤشر مواقع : اذاعة بغداد، اذاعة الـ بي بي سي، و اذاعة صوت العرب من القاهرة، كان جميلاً و كان يبثّ اغاني نعيمة عاكف الاستعراضية الراقصة التي اشتهرت آنذاك . . 

و بين كلام و احاديث متنوعة عن حال البلد . . قال الشيخ دايخ :

ـ امس عندما رجعنا من الصيد، صادفنا الشيخ جابر المعروف بكونه الابن الكبير لمن يملك اكبر اقطاعية في المنطقة، و هو قادم حديثاً من لندن . . و سأل بصوت آمر ( بأي حقّ يصادر الإصلاح الزراعي اراضينا التي ورثناها اباً عن جد ؟؟)، اجبته بأنه مدعو لزيارتنا و للحديث مع مزهر رئيس الجمعية الفلاحية في المنطقة لمناقشة ذلك، و قال انه سيأتي مساء هذا اليوم . . و لكن لفت انتباهي ان مرافقيه كانوا يحملون غدّارات بورسعيد المصرية، و السؤال هو من اين و كيف حصلوا عليها و لأيّ غرض ؟؟ . . سلاحنا في المنطقة لم يخرج عن البرنو و البرشوت و بنادق الصيد . .

قال مزهر :

ـ سنتناقش حول قانون الإصلاح الزراعي و كيفية تطبيقه وفق تعليمات وزارة الاصلاح الزراعي و هي اوامر الزامية، و لنرى ماذا سيقول . . يمكن يتكلم بشئ عن سلاحه الجديد . . 

و من بعد ظهر ذلك اليوم، بدأ ابناء شيخ دايخ و اولاد اخيه و احفاده يتهيّأون و ينظفون اسلحتهم و العتاد و يتوزعون على اركان الباحة الواسعة خلف الأسيجة . . و مرّ عليهم الشيخ دايخ منبّهاً عليهم  بضرورة الاستعداد الكامل . . حتى قدم الشيخ جابر بحماية اكثر من عشرين مسلّح، غالبيتهم كانوا يحملون غدّارات بور سعيد، دخل نصفهم معه الى المضيف و توزّع النصف الآخر خارج السياج . .

و بدخولهم للمضيف اشار والدي لي بالخروج من المضيف لأنه مجلس لمن اكبر سنّاً . . و فيما كنت اهمّ بالخروج و احاول سحب محمود معي استوقفني الخال مزهر و قال موجهاً الحديث لوالدي :

ـ استاذ رحيّم يبقون و يشاركون الجلوس معنا ابنكم و ابني محمود، و الاّ كيف يتعلمون و صاروا كبار؟ يمكن تتكون عندهم ملاحظات و اشارات تساعد الجميع ايضاً . .

فبقينا، و جلس معنا عدد من ابناء الشيخ دايخ و ابناء اخوته. . . و بعد السلام الاصولي و شرب القهوة و السلام على الخال مزهر و الاحاديث عن القرى . . قال الشيخ جابر فجأة :

ـ بربّك اخ مزهر، بأي حقّ يصادر الإصلاح الزراعي اراضينا التي ورثناها اباً عن جد، اليس هذه سرقة ؟؟ و لمن ستًوزّع ؟؟ ستوزّع على ناس مقطّعين موصّلين، لا اصل و لافصل لهم . . جنّا متونسين بنسوانهم بلا احم و لا دستور !!

اجابه مزهر بلجة قاطعة و بصوت عالي :

ـ و انت حجيتها بصراحة استاذ جابر ؟! و كأننا في مجلس شيوخ، الصراحة بكل الاحوال احسن . . و شلون كنتم تتونسون بنسوانهم ؟؟ غير بالقتل و التهديد و الاغتصاب و بالتجويع . . و كم حالة حصلت؟  و انت الشاهد او . . لو لا ؟؟ ليش ماتدافعون عنهم كأوادم و اخوان و اخوات لكم بالخلقة و الدين و العشيرة على الاقل . .

بعدين يبيّن انك نسيت و انت الدارس المتعلم ان اراضيكم كانت اراضي اميرية حكومية تديرها الحكومات السابقة و وزّعتها عليكم مقابل تاييدكم لها و اللي مايأيّدها حتى بعدين تسحبها منه، و اراضي اخرى بيعت لكم بفلس و نص بالتهديد و اخرى نهبت لكم بالقوة  بعد ان كانت مسجّلة اميرية او بإسم العشائر و صارت مسجلة باسماء اشخاص عيّنتهم حكومات العهد الملكي المباد مو غيرها، عينتهم كرؤساء عشائر، اضافة لعدد قليل من رؤساء العشائر فعلاً ، مقابل تأييدكم للاحتلال البريطاني او السكوت عنه . . اراضي لم تخدموها و لم تعتنوا بها و انما عشتم على جهود الفلاحين ابناء جلدتكم و عشايركم و على عرقهم و دمائهم . . و على نسائهم كما تقول بلا خجل و هنّ بنات عمّك . . نسيت قضية المسكينة ليلى ؟؟ من قتلها ؟؟ قتلوها لأنها رفضت ان تطئ طئ رأسها للذلّ و العار الذي حاولوا محاصرتها به . . و رفضت ؟؟ هل نسيت ؟؟ هل اذكّرك برقم القضية و تأريخها ؟؟؟

اصفرّ وجه الشيخ جابر . . ثم قطع الصمت بصوت واطئ :

ـ نعم . . سؤالي كم تقطعوا من اراضينا و كيف سيتم الحساب . . و اذا لم نقبل ماذا ستعملون ؟؟

ـ احسن شئ تمرّ لينا بالجمعية و نوضّح لك . . بس للعلم هي اوامر الزامية و الذي لايطبّقها يُحال امره الى القضاء و الشرطة !!

و ساد سكون الى ان جلبوا صحون الفاكهة . . و اخذ الحديث يدور عن فاكهة ذلك الموسم و كيف يمكن تحسينها و حول السقي و مشاكله، و فلان تزوّج للمرة الثالثة و لم يحصل على صبي، و فلان ضرب زوجته و تسبب لها بعاهة في ركبتها . .

و فجأة انزلقت احدى الغدّارات من كتف احد المرافقين و هو يقشّر برتقالة و ارتطمت بارض المضيف المرصوفة بالطابوق الفرشي، و احدثت صوتاً عالياً و فلتت رصاصة من غدّارة البورسعيد و اصابت سقف المضيف !! تسببت بلحظة صمت ثم صاح الشيخ جابر على حامل الغدّارة :

ـ لك تبقى مطي . . كم مرة شرحت لكم كيفية العناية بالغدارة و كيفية حملها و تأمينها، بس المطي يبقى مطي . .

ـ يا بيك بس احنا اخبرناك ان هذي الغدارات غير امينة و تفلت منها الاطلاقات بسهولة، الف الحمد الله و الشكر مرّت بسلام هالمرة .

ـ انجب لك و اقفل فمّك و الاّ اسدّه بالخرا !! كوم وليّ . .

و بقي الجميع بصمت يراقبون و يسمعون اسلوب و كلمات حديث الشيخ جابر مع ابن عمه و مرافقه في مجلس . . و لأقطع الصمت سألت الشيخ جابر :

ـ عموّ هاي الغدارات منين مشتريها و كم سعرها . . تبيّن حلوة و هاي اول مرة اشوف مثلها !!

ـ بويه هذي شغل كبار مو زغار . . هاي جبتها ويّاي من لندن كهدية لعشيرتنا من هناك . . 

و بعد ان تخفف التوتر . . استأذن الشيخ جابر للخروج، و خرج هو و مسلّحيه و قد تدلّت اكتافه على جانبيه، بعد ان دخل مرفوع الصدر و الاكتاف منفوخ الاوداج، و انتظر ابناء الشيخ دايخ و ابناء عمومتهم حتى غاب هو و مسلّحيه عن الناظر، ليأتوا الى المضيف باسلحتهم و يجلسون معنا لتناول الفاكهة و المشاركة بالاحاديث، كما دعاهم الشيخ دايخ . . و استمرت الاحاديث.

قال الخال مزهر و هو يلتفت لي و يربّت على كتفي :

ـ تسلم ابني السبع على سؤالك عن السلاح و ظلّ هالشكل حتى نطوّق الظالم . . هم هالملاعين الوالدين يعتقدون و يصدّقون اعتقادهم، يعتقدون انهم الافهم و ان الناس لاتعي و لاتعرف ان تحسب و تلاحظ . . جايب سلاح هدية من لندن ؟؟ ولك هذا سلاح مو صوغة شلغم !! شلون عبر بالمطار و شلون وافق الانكليز و الف شلون وراها . . هذه الغدارة معروفة و مكتوب عليها (بور سعيد ـ صنع في مصر) بالعربي ههههههههه

و اخبرنا عدد من الإخوان باجتماع الجمعيات الفلاحية في بغداد، اخبرونا بأن هناك دفعات من غدّارات بورسعيد مسلّمة لمهربين عبر الحدود السورية في ربيعة و توزّعت على عدد من الإقطاعيين في اطراف بغداد، و قد رأوها و صادروا بعضها في اشتباكات يد مع عدد من اعداء الإصلاح الزراعي، و قالوا بانها اسلحة صُنعت على طريقة غدارة الـ (برتا) الايطالية و لكنها لم تنجح لأنها غير امينة و تفلت منها الرصاصات بسهولة . .

انقطع الحديث . . حين اصغى الجميع الى صوت ام عماد و هي تصيح و اصوات نسائية تهدّأها:

ـ شنو يعني مضيف رجال ؟؟ لازم اشوف بنفسي . .

ـ ام عماد اهدأي عزيزتي . . صدّقيني لو مثل ماتقولين كان رحيّم ترك المضيف !!

ـ عيني سعاد الرجال مايتأمنون، هالنوب عاد شيوخ . . لازم اشوف بعيني !!

قالت زوجة الشيخ دايخ الكبرى :

ـ عيني ام عماد احنا و خاصة شيخ دايخ مايسمح بهالمسائل و اذا احّد عجبه، هاي مضارب الغجر مو بعيدة يكدر يروح الى هناك . . بس دقيقة انتظري نعطيهم نشده و هاي عباية البسيها و ادخلي عليهم، بس دقيقة . . و صاحت على ابنها الكبير و اخبرته بان ام عماد تريد تدخل و تتأكّد بس لا اكو غجريات !! ضحك الابن و قال :

ـ يا أميّ انتي ماتعرفين الوالد شكد متشدد بهالمسائل ؟؟

ـ اكرمنا بسكوتك و سويّ النا طريق ابني.  (يتبع)

 

عرض مقالات: