وظف شعره في خدمة قضايا التحرر والثورة والإنسان وخسر جماليته الفنية

 تحتفل الأوساط الثقافية الايطالية هذه الأيام وعلى طريقتها الصاخبة المعتادة بالذكرى 120 لميلاد شاعرها الراحل سلفاتورى كوازيمودو (1901-1968) الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1959 والذي يمثل أحد الوجوه الشعرية الحادة والأكثر اجتياحا لهذا الميدان الشاسع في عالم الشعر الايطالي المعاصر. فهو صوت متميز أكثر شرودا وأكثر صفاء حمل كلماته كماركسي في أقاصي غامضة نصف مضاءة من الواقع الايطالي، واقع أزمات محتدمة، القديم يتفسخ ويتحلل ومعه جنبا إلى جنب تبدو وتتراكم نذر الجديد العاصف، ليبني بالكلمات مواصفات فريدة لعالم تمحي فيه قابلية الكلمة للفساد.

غابت الواقعية التصويرية على معظم مراحله الشعرية، حيث كان للشعر دور، يأتي في المقدمة وقبل كل شيء الدور الاجتماعي، فجاءت معظم أشعاره لتستحضر على نحو لا تمكن مقاومته الأمل للجنوب الإيطالي الذي أوصدت أبوابه بعناية من قبل الفاشية وعصابات المافيا.

وتدور مع هذه الذكرى معارك كلامية في أعادة تقييم هذا الشاعر ومواقفه وقدراته الإبداعية، فيرى العديد من النقاد اليساريين بأنه من الخطأ أن يحاكم الشعر بمنطق الأيديولوجيا، وأن التجرؤ والتبسيط والانحياز إلى عنصر دون الآخر من عناصر العمل الفني يعد مبالغة لا تتسم بالواقعية  وغير سليم النوايا، كما أن النقد الذي يوجه للشاعر في الذكرى الـ  120 لميلاده  قاصر عن رؤية الجمال في العمل الفني الذي قدمه الشاعر الذي ساهم في صحوة الشعر الايطالي المعاصر، واستعاض بمضامين جديدة تموج في ثناياها روح النقمة والتحفز والتذمر  وتحمل مع غيره مسؤولية الصراع مع سلطة التراث من أجل حضور أغنى في القصيدة الإيطالية  المعاصرة.

كوازيمودو عبقرية شعرية استطاعت الانفلات من حدودها الزمنية المحددة، حيث تخطى الحقب المتعاقبة ليكون شعرا قادرا على الاستجابة لكل الأسئلة التي كان يطرحها الإنسان الإيطالي كما أن شعره احتفظ والى يومنا هذا بجدته رغم مرور الأزمنة عليه، فهذا الشعر إلى جانب احتفاظه بجماليات السرد القصصي والروح الشاعري، إلى انه أيضا طرح مصير الإنسان وموقفه من قضايا كثيرة وعلى رأسها الهموم الذاتية والاجتماعية أو السياسية بالدرجة الأولى.

ويرد العديد من النقاد على اتهام الشاعر بكونه يحمل قداسة للمضمون وقلل من شأن الشكل، بأنها (رؤية شكلية) فهو لم يرفض الأخذ بوجهة نظر جديدة في عالم كان على مشارف التغيير، فمن الواضح أنه كان لابد من مقاومة أشكال قديمة نزعم أنها جديدة، وانه كان لابد من مقاومة التجديدات الزائفة في وقت تحتاج الإنسانية قبل كل شيء لن تمسح عن عينها التراب الأسود الذي تركته معاول الفاشيين والذي كان يعمي الجماهير.

ويرى هؤلاء النقاد بأن الشاعر الذي نال نوبل عن كل جدارة ولم تستغرقه أشياء خارج نطاق الزمن، فقد استغرقته هموم الإنسان للحد الذي كانت قصائده تتراوح فيها الصور البرانية عن الإنسان والصور المنبثقة من حلمه ليضيء بعضها بعضا حتى أصبح شعره مسكونا بالزمن الإنساني ومرتبط بوعي إنسان تلك السنوات، فقد اعتبر بأن الشعر ثقافة، وأن الشاعر يملك جهازا ذهنيا ومخيلة للهضم والتمثيل جيدين.

من جانب آخر حملت الصحف والمجلات المتخصصة الايطالية العديد من المقالات والدراسات التي تؤيد ما ذهب إليه  الأدباء الفرنسيون في حملتهم الشهيرة التي اعترضوا فيها على منح كوزيمودو المغمور جائزة نوبل، فأكدوا على أن كوزيمودو لم يكن يستحق الجائزة التي جاءت أرضاء للاتحاد السوفيتي الذي أثار ضجة كبيرة في العام السابق أثر منح باسترناك الجائزة، وانه ظل بجميع مراحله الشعرية من المخلصين للواقعية الاشتراكية على اعتبارها ـ في زعمهم ـ  تركز على المضامين ولا تعبأ بالجمال والفن, واستطاع أن يوظف شعره في خدمة قضايا التحرر والثورة والإنسان وخسر جماليته الفنية واللغوية بعد أن اتصلت بالمفاهيم والشعارات المباشرة والسائدة التي كان يروج لها الحزب الشيوعي الايطالي الذي انتمى إليه عام 1945 فضاقت قصيدته وانحسرت في حيز واحد من أحياز الحياة، إذ لا يمكن حسب تقديرهم تقديم فكر جديد إلى جمهور جديد بصورة كاملة ومؤثرة، فالذهن البشري الذي ينشد أفكارا جذابة أو مدهشة أو يتصدى للبحث في مشكلات جديدة، لابد أن يتطلب أساليب جديدة للتعبير عن تلك الأفكار أو المشكلات.

شعر كوازيمودو يمثل ثلاث مراحل أساسية، الأولى ارتباطه بشعب جزيرة صقلية الذي كانت يسحقه القهر والفقر والمرض ويحارب قوى العتمة في الداخل، وإيمانه الصادق والعميق بقدرات الإنسان الصقلي على إن يمسك بمصيره بيده عاجلا أو آجلا والخارج. والثانية التي ارتبطت بأهوال الحرب العالمية الثانية وما رافقها من انكسارات وما فجرته من يقظة على عمق الفساد والتخلخل في الأبنية الاجتماعية والسياسية والثقافية أيام العهد الفاشي وما ولده ذلك في نفسية الفرد الايطالي من إحساس عميق بضياع أشياء كثيرة، سنوات الكفاح الصعب، والتفاؤل ، فجاءت قصائده في تلك المرحلة لتعمق الصورة الشعرية كأداة تعبير فني وشمولي، ولتعمق  الحس الدرامي بمأساة الوجود الإنساني، معتمدة الصورة ذات الجزئيات، والصورة الشاملة المحيطة ولعل خير مثال قصيدته الرائعة ( مرثية الجنوب) و( يا إنسان زماني) و( عام 1947) .

أما المرحلة الثالثة فتتمثل بالفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ليعطي قصائده بناء فني جديد واتجاه واقعي جديد جاء ليسحق الثورية الرومانتيكية التي طغت على أشعاره السابقة، وتبدأ هذه المرحلة لتقترب من لغة الكلام المحكي أي جعل الشعر شعبيا بعد أن طال اغترابه في دنيا الحماسة الثورية، فتغير قاموسه اللفظي ولم تعد قصائده تلعن العصر الذي سرق من الناس براءتهم وعافيتهم وصحوهم، تقوم على بناء هندسي متزن،

ولد شاعر ايطاليا سلفادورى كوزيمودو من ام ذات اصول يونانية، في عام 1918 برحل والده الى مدينة " مسينا" في جزيرة صقلية وفي ذات العام وبسبب انفجار أحد البراكين هناك تلجأ العائلة للاحتماء في احدى العربات المهجورة في محطة مهدمة وسيتذكر الشاعر ما حدث ه مستقبلا وسيتأثر كثيرا لذلك. في سنة 1919 ينهي دراسته الاعدادية ويتوجه الى روما لدراسة الهندسة ولأسباب اقتصادية قاهرة يقطع دراسته مضطرا ان يعمل لأجل العيش. في عام 1930 ينشر اولى اعماله الشعرية " الماء والارض" في عام 1939 يترجم بعض الاشعار اليونانية ويعمل في كبريات الصحف آنذاك. في عام 1942 ينشر ديوان"وحالا يكون المساء" فيثير بذلك موجة نقد واسعة لصالح المجموعة الشعرية، في عام 1949 ينشر " الحياة ليست حلما". في عام 1959 ينال جائزة نوبل للآداب. في عام 1960 يزداد اهتمام العالم به وتنشر له كبريات دور النشر عشرات الترجمات لأعماله ويقوم الشاعر بدوره بترجمة شكسبير وشعراء اخرين الى الايطالية. في عام 1968 يصاب بانفجار في الدماغ ويموت على أثره في احدى مستشفيات مدينة نابولي.

  إلى أرضي

شمس تتشظى متورمة في الحلم

واشجار تعوي

وفجر مخاطر

لا ترسو فيه السفن

والفصول البحرية

عذبة تختمر بالشواطئ المكتنزة بميلادها المتجدد

أنا هنا عاجز توقظني

ارض اخرى

يا للمرارة

ورحمة الاغنية المتقطعة

حيث الحب يوصاني بالناس وبالموت

يا لشروري التي تخضر من جديد

فالأيادي مثل الهواء معلقة بأغصانك

كالنساء المنغلقات بأحزان الهجرات

يعجزن عن الامساك بالزمن

لكني ألقي بنفسي عليك:

كشحنة طرية في القلب

كخطى الملائكة العارية

تصغي اليك في الظلام

  المزمار الغاطس

 جزاء بخيل، يؤخر عطاياك

في هذه الاوقات المغمورة بالأنفاس المهجورة

ومزمار جليدي يتهجى

بهجة اوراق سرمدية

ليس لي، وبلا ذاكرة

لينتصب المساء في داخلي:

 عندها تنزاح المياه

 فوق كفي المعشّبة

اجنحة تخفق في سماء باردة

مسرعة تعبرني:

يغادرني القلب

وأنا لست سوى حزمة من الاشياء

والايام انقاضي

 الجدار

 في مواجهتك يرفعون جدارا بصمت

حجر وجص حجر وكراهية،

كل يوم في الحيّ الارقى

تتساقط خيوط الرصاص.

البناؤون كلهم سواء، صغار

سمر الوجوه، وماكرون.

على الجدار يخطون شعاراتهم،

وحين تمحوها الامطار

يعيدون كتابتها من جديد،

وبطرق رياضية أكثر رحابة.

بين حين وآخر يهوى من أعلى البناية

أحد منهم وحالما يمضي الاخر ليأخذ مكانه.

لا يرتدون صدريات العمل الزرقاء

ويتكلمون فيما بينهم بلهجة رمزية.

عاليا ينهض بين الثقوب

جدار الصخور الذي تسحف فوقه العقارب

وانت بعيد عن هذا كله

لا تنشد الشكر ولا الفوضى

عرض مقالات: