ثلاثة من الكتاب والمثقفين اليهود من أصل عراقي اختطفهم الموت وغادروا الحياة تباعًا، فخسرهم الادب والثقافة العربية والإنسانية المعاصرة، وهم : " شموئيل موريه، ساسون سوميخ"، وأخيرًا " شمعون بلاص ".

وكنت قد كتبت مقالتين منفصلتين عن موريه وسوميخ، وفي هذه العجالة سأتحدث عن د. شمعون بلاص العربي – اليهودي.

بلاص مثقف وقاص وروائي وناقد وباحث يهودي عراقي، ولد في بغداد العام 1930، نزح من العراق إلى اسرائيل في العام 1951، محملًا بالأفكار الثورية اليسارية التي اجتاحت القطر العراقي في أربعينيات القرن الماضي. وعن هجرته ونزوحه جاء في احد الحوارات التي أجريت معه : " بصراحة نزوحي عن العراق كان اضطراريًا، وحق العيش في فلسطين أجبرت عليه، أنا كنت شيوعيًا آنذاك، وهذا يعني أن موقفي كان معاديًا للصهيونية كحركة، وعندما جئت إلى اسرائيل، كان موقفي معارضًا للسياسة الاسرائيلية، وعندي موقف واضح من القضية الفلسطينية ".

شغف بلاص بالأدب العربي، وعشق القراءة والكتابة، ومارس الكتابة بالعربية في الصحف والمجلات العراقية التي كانت تصدر آنذاك، وبقي مخلصًا للهوية التي عرفها وهي لغة الضاد.

 كتب القصة والرواية والبحث والنقد الادبي، وأبدع في كل هذه المجالات والألوان الأدبية.

انتمى شمعون بلاص قبل هجرته إلى البلاد للحزب الشيوعي العراقي الذي عارض الاحتلال الانجليزي وطالب باستقلال العراق، وأشتغل في صحيفة " صوت الشعب " الناطقة باسم الحزب مسؤولًا عن القضايا العربية. وحين قدم للبلاد انخرط في صفوف الحزب الشيوعي الاسرائيلي، ونشر كتاباته في صحفه ومجلاته " الاتحاد " و " الجديد "، وعمل مراسلًا للشؤون العربية في صحيفة " كول هعام " التابعة للحزب والصادرة باللغة العبرية. وفي العام 1960 ترك الحزب وانسحب منه، وبقي صديقًا له، متمسكًا بمواقفه الليبرالية والتقدمية والإنسانية.

في العام 1971 سافر بلاص إلى باريس وأقام في هذه المدينة الجميلة، حيث أعدًّ اطروحته للدكتوراه في جامعة السوربون، وعند عودته العام 1974 عين محاضرًا في قسم الادب العربي المعاصر بجامعة تل أبيب ثم في جامعة حيفا، حيث شغل منصب رئيس قسم اللغة العربية وآدابها.

امتاز شمعون بلاص بثقافته الشمولية، فكان مثقفًا وأديبًا واسع الاطلاع، شغوفًا بالمعرفة، وعرف بإنسانيته وطيبته ودماثته وتواضعه الكبير، وكان مثالًا في الخلق والأدب والصدق والاستقامة والمبدئية والتواضع، رغم مكانته الأدبية والمناصب التي تبوأها.

صدر لبلاص العديد من الكتب والمؤلفات في القصة والرواية والبحث الأدبي، وهي : " همعبره - رواية عن مخيم للنازحين (1964)، أمام السور، قصص (1969) شعب من بغداد، رواية (1970)، حذاء الطنبوري، رواية للأطفال بالإنجليزية (1970)، انبلاج، رواية (1972)، في المدينة السفلى، قصص (1979)، غرفة مغلقة، رواية (1980)، الشتاء الأخير، رواية (1984)، وبيضة الديك، مجموعة قصصية، ونذر الخريف، قصص".

وفي العام 1970 نشر بلاص مجموعة قصص فلسطينية أعدها وترجمها مع مقدمة عن مسيرة وحياة الادب الفلسطيني. وله الكثير من الأبحاث والمقالات نشرت في مجلة " الكرمل " الصادرة عن جامعة حيفا.

ومن أهم منجزات شمعون بلاص البحثية، كتابه " الأدب العربي والتحديث الفكري " وكتابه القيم والهام عن " الادب العربي في ظل الحرب "، الصادر عن دار المشرق لصاحبها الأديب محمود عباسي العام 1984، وترجمه للعربية الأديب زكي درويش، ويتطرق فيه لموضوع النزاع العربي الاسرائيلي وانعكاسه في الانتاج الأدبي وللقضية الفلسطينية وادب المقاومة. وفي استهلال الكتاب يقول بلاص : " في هذا الكتاب سأحاول دراسة الانتاج الادبي الذي يعكس موضوع النزاع وما ترتب عليه حياة الفرد منذ 1948 حتى 1973، ولهذا سوف لا اتطرق الى تقييم هذا الانتاج من الناحية الفنية الا في الحالات التي لم ار بدا من ذلك، كما أني سأكون مضطرا احيانا الى معالجة العمل الواحد في فصول مختلفة . أصل هذه الدراسة اطروحة للدكتوراه قدمتها لجامعة السوربون بباريس سنة 1974. وعندما ازمعت على نشرها أضفت عليها فصولا جديدة وأدخلت عليها تغييرات في المبنى، كما أرفقتها بفصل يتناول الاعمال التي ظهرت عقب حرب اوكتوبر 1973. وقد ترجمت هذه الدراسة الى اللغة العبرية وأصدرتها في كتاب سنة 1978، ثم أصدرتها بالفرنسية سنة 1980".

وتتميز أبحاث بلاص بالموضوعية وتعتمد المنهج العلمي الاكاديمي .

مات شمعون بلاص وترك وراءه أوراقه وميراثه الأدبي والثقافي، الذي سيظل معينًا للباحثين والاكاديميين وعشاق القراءة والمعرفة، رحمه اللـه، وطاب ثراه، وستبقى ذكراه خالدة في قلوب طلابه ومعارفه ومحبي أدبه وفي تاريخنا الثقافي العربي.

عرض مقالات: